على اختلاف حدتها وتأثيرها في السلام العالمي، فإن مواطن النزاع والحروب التي تتفجر بسببها كثيرة ولا يخلو منها واقع أي جيل من الأجيال على مستوى الكرة الأرضية. ولو أن المرء استحضر على سبيل المثال أهم هذه الحروب والنزاعات الجارية اليوم وأكثرها دموية ومأساوية وتأثيرا في السلام العالمي وتأمل أسبابها وتبعاتها المادية والنفسية مثل الحرب الدائرة في أوكرانيا، وتلك التي يراد لها أن تندلع هذه الأيام في تايوان على خلفية زيارة الـ«كاوبوية»، عجوز مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، فإنه لن يحتاج لكثير عناء ليستنتج أن لأمريكا اليد الطولى في اشتعال هذه الحروب كما أنها وحدها من يملك القرار في استمرارها ومن يملك القدرة على إيقافها وكف أذاها على مواطني تلك البلدان وما يمكن أن يستتبعها من آثار سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية مدمرة.

أمريكا ولأسباب استراتيجية تدعم استمرار الحروب ودوام المشكلات التي تستنزف القوى المنافسة لها على الصعيد الدولي بما يعزز بقاءها قطبا عالميا أوحد مهيمنا، كما هو الحال مع الحرب الدائرة في أوكرانيا، بل إنها تستولد المشكلات وتبتكر الطرائق لإيجادها كما هو الحال مع الأزمة المفتعلة مع الصين بسبب تايوان، وواضح في هذين المثالين أن مقصد أمريكا استباقي يستهدف تعطيل أنساق النمو في دولتين رأت فيهما خطرا وشيكا يُهدد ريادتها العالمية اقتصاديا وعسكريا. وفضلا عن المثالين السابقين لا ينبغي أن ننكر أن هناك نزاعات وحروبا قائمة لا تريد أمريكا لها نهاية مثل الحرب في اليمن والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي والحرب في ليبيا.. وغيرها من النزاعات والحروب في أماكن أخرى من العالم يكفي تدخلا أمريكيا بسيطا لنزع فتيلها ولكن الاستراتيجيات الأمريكية تأبى ذلك لأن في نهاية تلك الحروب أمنا وسلاما قد لا يخدم مصالح أمريكا العاجلة وخاصة مصالحها الآجلة. ورغم سياسة إشعال الأزمات وإدارتها فإن أمريكا تعلم جيدا أن كل هذه الحروب بما في ذلك الحرب الأكرانية والأزمة التايوانية لا يُمكن أن تكون سببا في نشوب حرب عالمية ثالثة؛ لسبب بسيط استنتاجا فظيع مآلا هو أن حربا عالمية ثالثة تعني فناء شاملا للبشرية جمعاء بما فيهم الأمريكان.

السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان للحرب في أوكرانيا، على سبيل المثال، أن تندلع لو أن أمريكا تخلت عن أنانيتها وأخذت في الحسبان مصالح الدولة الروسية، وهي، على أي حال، ليست مسألة نكران ذات وإنما مسألة التزام بمبدأ الإقرار بحقوق الدول والشعوب الأخرى وبمصالحها؟ فليس من المنطقي أن أرى التهديد لسلامتي وأمني واقعا قائما أمام باب منزلي وأجلس متفرجا! والسؤال الآخر الذي ينبغي أن يطرح فيما يتعلق بزيارة «الكاوبوية» نانسي بيلوسي هو: هل منا من رصد أهمية لهذه الزيارة غير إثبات أن «الكاوبوي» قادر على تنفيذ ما يحلو له؟ ألم يطلب البيت الأبيض بتأجيلها؟ ثم ألم يكن من الممكن تأجيل هذه الزيارة أو يجري الترتيب لها مع بكين وأنها على النحو الاقتحامي الذي جرت به فيها كثير من التحدي للكبرياء الصيني؟ هذه الأسئلة تتعلق بأزمتين قائمتين كل واحدة منها تنذر، لا قدر الله، بانزلاق العالم المجهول. لكن أمريكا وهي تعتنق عقيدة الكاوبوي لا تبالي إلا لما يحقق مصالحها ويؤكد غطرستها ضد الدول والأمم. وقس بتأمل هذه الأسئلة على باقي قضايا العالم الذي تُعد فيه أمريكا قوته العظمى أو.. الأعظم.

صحيح أن لتبوء الولايات المتحدة الأمريكية هذه المكانة ما يبرره على كل المستويات الاقتصادية والعسكرية والحقوقية والثقافية والعلمية، إلا أن الصحيح أيضا أن إمكانات التطور متوافرة أمام الدول الأخرى لمنافسة أمريكا وتبديل هذا الواقع وتغيير ميزان القوى العالمي، وهذا ما يحدث بالضبط في الصراع القائم على تغيير الواقع بين القوى العالمية الثلاث الكبرى، أمريكا وروسيا والصين. وفي هذا الصراع تبرز أهمية الإصرار الأمريكي على تمديد حلف الناتو لجهة الشرق لمواجهة روسيا، ولهذا فإنه لطالما بقيت الولايات المتحدة مصرة على أن تكون القطب العالمي الأوحد فإن مشكلات العالم، وحدة التنافس بينها وبين الدول الأخرى مثل الصين وروسيا ستزداد، وستتجلى في حروب تجري جلها خارج الأراضي الأمريكية وخارج الدول المنافسة لها، وهذا هو الذي يجري الآن في أوكرانيا وفي تايوان.

السؤال الذي يفرض نفسه على كل متابع للشأن الدولي هو هل يبقى حال العالم مرهونا برغبات القطب الأمريكي، أم أن هذا الواقع ذاهب إلى زوال ببروز الصين وروسيا كقوى ندية لصناعة مجتمع إنساني أكثر إنسانية؟! هذا هو السؤال الذي ستتضح الإجابة عنه في غضون الأشهر والسنوات القليلة القادمة، خاصة وقد علمنا التاريخ أن مآلات القطبية الأحادية زوال أكيد عادة ما يتم ببروز قوى جديدة تفتك الريادة من القوة القديمة وتبني على إرثها طورا جديدا من أطوار التاريخ البشري بوعي جديد نرجو أن يكون هذه المرة قائما على العمل الدائم على ضمان مقومات سلم عالمية دائمة وعلى إنشاء عالم جديد خال من الاستغلال والحروب والنزاعات.