عشنا الأيام الأخيرة تفاصيل كثيرة، ومباحثات وجولات ماراثونية، بين الجانب المصري وبين طرفي الصراع الإسرائيلي والفلسطيني، مصداقية ومقبولية القاهرة مكنتاها من الوصول إلى الهدف، في أسرع وقت وأقصر طريق.

الدعم العربي للمسارات المصرية يتضح بقوة في الأزمات الكبرى من أجل تحقيق المزيد من الاستقرار وتبريد الصراعات بالمنطقة.

استطاعت الدبلوماسية المصرية، والأجهزة الوطنية المعنية، تحقيق اختراق جديد، وتمكنت من فرض وقف إطلاق النار، بعد ثلاثة أيام فقط من اندلاع المواجهات التي كانت تستغرق في السابق، شهوراً طويلة، يسقط فيها آلاف الأبرياء والجرحى، الإرادة المصرية تفرض نفسها، اللحظة كاشفة، مصر تقف على مسافة واحدة من جميع الفصائل الفلسطينية، وهدفها تحقيق السلام والاستقرار والأمن، لكل الفلسطينيين، بعيداً عن انتماءاتهم الفصائلية والأيديولوجية.

يوماً بعد الآخر، تتأكد أمام العالم تلك الثوابت المصرية، تجاه القضية الفلسطينية.

ربما يتساءل البعض: لماذا تنجح الدولة المصرية ـ تحديداً ـ في فرض الهدنة، ووقف إطلاق النار كلما اندلع الصراع؟

في الحقيقة، أن مصر ليست لديها أية مصالح أو أجندات خاصة، إنما لديها ثوابت ومحددات يحكمها الإيمان الكامل بحل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، التاريخ يؤكد ذلك، فقد قدمت مصر آلاف الشهداء والتضحيات من أجل هذه القضية، منذ عام 1948، وعام 1956، وعام 1967، وعام 1973، وحتى عندما وقعت اتفاقية السلام، كانت القضية الفلسطينية جزءاً رئيسيّاً من رؤية مصر للسلام في المنطقة، لا أحد يستطيع المزايدة على مصر، الواقع يكشف، بل يؤكد الحقائق.

إذا كان التاريخ يسجل حجم وطبيعة الدور المصري في خدمة القضية الفلسطينية، فلا شك أن التاريخ نفسه سيكتب ـ أيضاً ـ حجم الدور المصري، منذ أن تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي، مهمة قيادة البلاد عام 2014، وهو يضع في مقدمة أولوياته الوصول إلى حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، فمن يقرأ تفاصيل القمم، التي جمعت القادة العرب، خلال السنوات الأخيرة، يتأكد له أن القضية الفلسطينية كانت حاضرة وبقوة، في المباحثات والمفاوضات، لم تغفلها قمة من كل تلك القمم، بل جميع نتائجها كانت تؤكد التضامن والدعم العربي الكاملين، لهذه القضية، والشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن هذا الاهتمام لم يقتصر فقط على قمم القادة العرب، إنما كانت القضية حاضرة، بالزخم والقوة نفسيهما، في اجتماعات القادة العرب مع زعماء العالم، ولعلنا نتوقف أمام مخرجات قمة جدة للأمن والتنمية، التي حرص القادة العرب خلالها، على حض المجتمع الدولي على ضرورة وأهمية دعم الشعب الفلسطيني، في إقامة دولته المستقلة.

ما يستحق التوقف أمامه هنا؛ أن الجهود المصرية تنطلق وفق مسارات، تجد كل الدعم العربي، فالقاهرة تعمل على أربعة مسارات رئيسية، في مقدمتها: تشجيع الطرفين - الإسرائيلي والفلسطيني - على استئناف مفاوضات السلام التي توقفت منذ أبريل عام 2014، وفي هذا المسار تعتقد مصر والدول العربية، أن استئناف المفاوضات لحل القضية، هو المخرج الوحيد لإيقاف دوامة الصراع، الذي يتجدد بين مرحلة وأخرى، وأن تحقيق السلام سوف يعطي المنطقة والشرق الأوسط، فرصة جديدة لتحقيق الرخاء والازدهار، أما المسار الثاني، فيقوم على دعم الوحدة الوطنية الفلسطينية، بين الفصائل، وإنهاء حالة الانقسام، لاسيما أن استمرار التناحر والخلافات، سيؤدي إلى مزيد من إهدار الحقوق الفلسطينية، ويعطي الجانب الإسرائيلي، فرصة جديدة للتهرب من استحقاقات السلام.

يأتي المسار الثالث للدولة المصرية، متمحوراً حول إعطاء الأمل لأبناء غزة، عبر مشروعات إعادة الإعمار، التي انطلقت منذ مايو 2021، وحققت نجاحات كبيرة في بناء ما دمرته الحرب. أما المسار الرابع، فيعتمد على حشد المجتمع الدولي، على دعم الحل السياسي للقضية الفلسطينية، ونلمس ذلك في المواقف الأوروبية، التي باتت أكثر تفهماً لواقع المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني.

وسط كل هذه الجهود والمسارات، علينا أن نقرأ المشهد العالمي من حولنا، وما يدور فيه من إعادة ترسيم لموازين القوى، ومن ثم يجب علينا، اغتنام هذه الفرصة، حتى لا تتحول إلى فرص ضائعة، وهنا أرى أن البناء على هذه المسارات يحتاج إلى تضافر جهود الجميع، على جميع الصعد، الفلسطيني والعربي والعالمي.