قال الدكتور محمد العيسى، أمين عام رابطة العالم الإسلامي أمام جمع من الشباب الأوروبيين بمنتدى «ريمني السنوي في إيطاليا» إن نظرية «صدام الحضارات» التي جاء بها الأميركي «صموئيل هنتنغتون» لا تُعبر حقيقة عن العلاقة بين الحضارات الإنسانية، موضحاً أنها أغفلت المشتركات الإنسانية التي تجمع سكان الكرة الأرضية.
وبيّن العيسى في محاضرته التي ألقاها قبل أيام أمام حشد من الشباب الأوروبي أن «تحالف الحضارات» هو ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الإنسانية، فالتكامل بين الثقافات المختلفة هو السبيل الأقصر والأسهل (والأوحد بالطبع) لازدهار العالم ونمائه.
والحقيقة أن كلام الدكتور العيسى لا يمثل الرابطة التي يرأسها، ولا العالم الإسلامي الذي يجتمع تحت مبادئها فحسب، وإنما هو دستور أرضي لسكان الكرة الأرضية كافة، ينطلق من مبادئ إلهية عُليا تدعو الناس إلى إعمار الأرض ونشر الأمن.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل جاء هنتنغتون بهذه النظرية كمنتج فلسفي ذاتي خالص، أم هو جندي في جيش من المنظرين والمفكرين الذين أوكلت لهم مهمة صناعة تفاصيل المائة سنة المقبلة لمستقبل أميركا؟
بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، أصبحت أميركا هي القوة المهيمنة على العالم. أصبحت قوة واحدة في مواجهة الفراغ. لا منافس يهدد، فتُبقي تحصيناتها الداخلية والخارجية على أهبة الاستعداد، ولا عدو يتربص بها، فتعمل على استدامة وتطوير بناءاتها الداخلية والخارجية. قوة معقدة كبيرة في مواجهة الفراغ! ومتى ما كانت القوة العظمى وحيدة بلا منافس أو عدو، فإنها أقرب إلى الانهيار في خلال عقود قليلة!
كتب هنتنغتون في عام 1993 فكرة نظريته في مقال صغير في مجلة أميركية، ثم أُريد لهذا المقال أن ينتشر ويشتهر شيئاً فشيئاً حتى تحول لكتاب في عام 1996 تحت عنوان «صدام الحضارات وإعادة ترتيب النظام العالمي». وربما لم يكن من المصادفة أن المقالة والكتاب نُشرا خلال حكم «الديموقراطيين» للبيت الأبيض. سقط الاتحاد السوفييتي، وبسقوطه سقطت «القومية»، وبالتالي لم يعد هناك فرصة لصدام يُبنى على أسس وطنية. وسقطت الشيوعية، وبسقوطها سقطت «الإيديولوجية»، وانتفى أي مبرر لقيام حرب على أساس المعتقدات. ماذا يمكن أن يفعل هنتنغتون أو المشغلون له لمواجهة احتمال سقوط أميركا؟ البديل الحاضر هو إدخال مفهوم جديد للصراع هو «الصدام على مستوى الحضارات». أميركا تُريد أن تبقى وتنتعش خلال المائة سنة المقبلة. والانتعاش والازدهار مرهون بوجود عدو يمكن الاتكاء عليه. فلا بد إذن من إدخال مفهوم جديد والترويج له وتبنيه وتطبيقه على أرض الواقع!
بدأت في التسعينيات صرعة «الإسلاموفوبيا» كإحدى مخرجات هذا الكتاب، ثم تلاها العمل على استعداء الإسلام كمكون حضاري، وتسربت «الفوضى الخلاقة» في الشرق الأوسط (العراق وليبيا واليمن ولبنان) من بين طيات الكتاب كتعبير عملي للنظرية الشهيرة.
لماذا بدأ تطبيق النظرية بالحضارة الإسلامية ولم يبدأ بالحضارة الأرثوذكسية أو الكونفوشيوسية وهما من الحضارات القابلة للصدام في الكتاب؟ لسبيين ربما يكونان بسيطين: سهولة التطبيق على خريطة العالم الإسلامي، ولقطع الطريق على أية اتصال وتعاون بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى في مواجهة الحضارة الغربية!