أقول عن عُمان في عمر الصبا كانت لنا مصيفاً، بالأخص في منطقة «الباطنة» حيث تنسينا قيظ الصيف. آنذاك كان التواصل الاجتماعي في أبهى صورة وأصفى معنى. كانت «الباطنة» لنا بمثابة متنفس سياحي طبيعي، ليس بخدماتها التي يبحث عنها الناس في أيامنا، بل هي منتجع مصغر.
بالمختصر المفيد أذكر مكونات هذا المنتجع، الماء من البحر أو أحواض المزارع التي تسقي المزروعات، وهي عذبة كالزلال وباردة تطفئ وهج الصيف، والخضرة من المزارع المصفوفة على مدى البصر، أشجار النخيل وجوز الهند والمانجو واللوز والسِدر، أما أهل المكان، فإن وجوههم تعكس ضيافة الكرماء للزوار.
هذا الوضع كان متاحاً في فترة الستينيات والسبعينيات، لمن ضاقت به إمكانات السفر إلى القارات الأخرى التي يتنافس الناس على زيارتها، ومن ثم الحديث عن المتاح فيها من أجواء باردة أو خدمات راقية.
في بداية الثمانينيات، تفتحت أعيننا على مدينة «صلالة»، من بعد «الباطنة»، فقمنا بالسياحة الأولى إليها مع بعض الزملاء عن طريق البر، قاطعين مساحة قدرها 1200 كيلومتر في فترة زمنية تقدر بـ 12- 14 ساعة غير متواصلة.
هنا وصلنا إلى عنوان «صلالة» السياحي في خريفها المستمر ابتداء من شهر يوليو إلى نهاية شهر سبتمبر، كانت بالنسبة لنا اكتشافاً جديداً في سلطنة عُمان.
تستقبلك عند دخولك «صلالة» السُحب التي استوطنت على رؤوس الجبال والمرتفعات والهضاب والسهول، وقد تمس السحاب بيديك أو تمتلئ مركبتك من الندى والضباب، منظر لا يعرف رسمها ووصفها إلا ريشة فنان أو قلم أديب بمستوى الرافعي أو المنفلوطي.
في هذا المكان الزاهي بجمال الجبال المخضرة والشلالات المتدفقة، خرجت ثورة ظفار في منتصف الستينيات من القرن الماضي، مدعومة من قِبل الاتحاد السوفييتي، وبعد قرابة عشر سنوات، قام أهل المنطقة بتسليم سلاحهم لحكومة مسقط، وتم إخماد الثورة وعاد ثوار ظفار واتحدوا مع حكومتهم بقيادة السلطان قابوس بن سعيد رحمه الله.
لولا هذا الأمن والاستقرار، لما تمكنا الوصول إلى «جنان» صلالة المبهرة، ولما تمكنت السحب من بسط جناحيها على هذه الجبال الممتدة إلى يمن الحكمة.
وعلى امتداد البصر تشرق عيون السياح بالسعادة، الخيام مغروسة كالأشجار، والطائرات الورقية تملأ أجواء وآفاق السماء بمصاحبة ضحكات الأطفال، وكرم أهالي صلالة يصل إلى جيران المخيمين، وماء جوز الهند يروي الظمآن.
بعد العودة الأولى من «صلالة» توالت الرحلات مع العائلة والأصدقاء في فترة التسعينيات والألفية الثالثة مرات للقناعة بأن صناعة السياحة الخليجية يمكن أن تكون بديلاً مناسباً إذا اشتكت أوروبا من سهر حمى الصيف عندها، فالله لا يقطع عنا السبل بقليل التدبير والتقدير لمستقبل سياحي يبهر أعين السائحين.