يتنصل السياسيون اللبنانيون كلياً من مسؤولياتهم عن كل ما حل ببلدهم وشعبه من ويل. ويتشاطرون في إبعاد التهم عن كواهلهم وإلصاقها، كلّ بخصومه، وبالمجهول غالباً... كما في حوادث سرقة البيوت وفاكهة الأشجار وبيض الدجاجات التي تسجل ضد مجهول لتعذّر الوصول إلى "الجناة" الحقيقيين، أو لسخافة الجرم أحياناً.

يتندر أهل القرى في لبنان بقصص واحد سرق دجاجة وآخر سطا على بيض الخم وثالث سرق سلّ تين ورابع خرب زرع جاره وخامس قوّص كلباً شارداً وسادس تلصص على جارته وما شابه، لكن أهل القرى هؤلاء، ومعهم أهل المدن، يقفون مذهولين أمام الهول الذي وصل إليه مستوى الخراب في البلد فلا يدرون ما يفعلون.

بغفلة من الزمن سقط لبنان في الحفرة، وكأن سقوطه فاجأ الجميع، وكأن ساسته لم يكونوا يعرفون بشيء. داهمهم سقوطه كما داهم الغالبية المسترخية من شعبه المؤمن بقداسة زعمائه وقضاياهم فوق البشرية. ولأن السقوط كان "مفاجئاً"، يتخبط الجميع خبط عشواء في الطين وأرجلهم تجر سلاسل معدنية مثقلة بحجارة.

سقط لبنان ما بعد الطائف يوم قام نظامه على المحاصصة الطائفية والمذهبية، معطوفة على ما لا يستطيع بلد تحمله من تدخلات وتشعبات إقليمية ودولية، كلها ذات طابع "استراتيجي".

المهم، لبنان واقع في الحفرة والعالم يهيل عليه التراب حتى ليكاد يختنق، ولا أحد، لا أحد، من قادته الملهمين ينطق بكلمة حق أو يخطو خطوة إنقاذية. أما ما نسمعه عن مبادرات وخطوات ومساع واجتماعات فهو عبث في عبث من صنع صبية الإعلام وخدمة السلاطين وغلمان مواقع التواصل اللا اجتماعي.

والأنكى من العجز الكلي وانعدام الرؤية والتعامي هو ما تمارسه السياسة من تنصل تام من المسؤولية. فلا مسؤول مسؤول عن شيء. لا رئيس ولا وزير ولا نائب ولا قائد أمني ولا قضاء ولا مدير ولا خفير... لا أحد مسؤول. هم الدولة والدولة هم... ولهم، ولا يتورعون عن مهاجمة الدولة التي مصوا دمها باعتبارها المسؤولة عن كل المآسي. إنهم يتنصلون من أنفسهم ولا حرج.

لم يدرج مفهوم التنصل في الأدبيات السياسية العالمية، لكنه سيُدرج بالتأكيد بفضل السياسيين اللبنانيين، وبعض العالمثالثيين. إنه صنع مدرسة من أهل المسؤولية والحكم تقوم على الإنكار والتملّص. مدرسة تعبث فيها الشياطين ولعّيبة الكشاتبين ومروّضو الثعابين.

يعرف اللبنانيون جميعاً ويعرف العرب والعجم والشرق والغرب أسباب انهيار لبنان، وإن اختلفت بعض الرؤى، لكن لا أحد لا يعرف أن الفساد السياسي والمالي، وهدر المال العام وسرقته، وإفساد الإدارة والمحاصصة، وشد العصب المذهبي والطائفي، والعناد والسعي إلى الاستئثار بالثروات وتدمير المنجزات، والتواطؤ بين السياسة والمال، وغياب المحاسبة والمساءلة، والتستر على الفضائح ولفلفتها، وحماية اللصوص والمرتكبين علناً وبالسر... كل هذا من مسؤولية السياسيين اللبنانيين، ولا علاقة للوضع الإقليمي والتدخلات الأجنبية به.

يتنصل المسؤولون والسياسيون اللبنانيون عموماً من أي مسؤولية. هم الأبرياء الأنقياء و"الآخرون" هم الفاسدون الفاشلون. لا أحد منهم ارتكب معصية، ولا أحد فشل في مهمته. وزراء المال أدوا مهمتهم على أفضل وجه، وحسابات حقلهم طابقت دائماً حسابات البيدر، ومع ذلك اختفى المال من البلد بلمح البصر، وصار الناس على الأرض يا حكم. حاكم المصرف المركزي انتُخب أفضل حاكم في العالم (كيف؟) ولم يعرف أحد كيف هرّب ثروة اللبنانيين بهندساته وفذلكاته.

وزراء الطاقة أعدّوا مخططات ودراسات، ووعدوا اللبنانيين بكهرباء مستديمة وبسدود تفيض عليهم بالمياه صيفاً وشتاءً، فانقطعت الكهرباء نهائياً وتسربت المياه من السدود، وأصبح اللبنانيون بلا ماء ولا كهرباء.
والسلسلة تطول عن وزراء الداخلية والخارجية والأشغال والتربية والسياحة والصحة والزراعة وغيرها، وعن المصالح والمؤسسات الكبرى في البلاد.

لا أحد يتحمل المسؤولية، ولا أحد يواجه الشعب بالحقيقة. يكذبون ويتنصلون ويحرفون ويرمون المسؤولية على غيرهم. في خطابهم (الفاجر غالباً) المسؤول عن الخراب هو المجهول. "سرقوا المال"، "فشلوا في إدارة البلد"، "ما خلونا نشتغل"....، هم، هم. من هم هم؟

التنصل فعل خسيس في السياسة يمارسه الساسة اللبنانيون بكل بداحة. هو نقيض الشجاعة والأمانة وهم لا يملكونهما. دعكم مما يصفون أنفسهم به فمادح نفسه كذاب.