لطالما اشتكت الهند من طالبان الأفغانية باعتبارها حركة متطرفة تسعى إلى خلق القلاقل في الداخل الهندي عبر توجيه ضربات إرهابية إلى مصالحها، بل اعتبرتها أداة للإضرار بأمنها القومي ووحدتها الوطنية؛ لذا تنفس الهنود الصعداء نسبياً، دون انحسار مخاوفهم تماماً في عام 2001 حينما أخرجت الولايات المتحدة طالبان من السلطة، وشتتت قواتها بالضربات الجوية الساحقة، رداً على توفيرها الملجأ والحماية والدعم لمرتكبي هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية.

غير أن مخاوف الهنود القديمة أطلت برأسها مجدداً قبل عام على إثر استلام طالبان للسلطة في كابول مرة أخرى، بمجرد انسحاب القوات الأمريكية والغربية من أفغانستان على النحو الفوضوي المعروف.

إذ سارعت نيودلهي إلى إغلاق سفارتها في كابول وإجلاء دبلوماسييها منها، خشية تعرضهم لسوء المعاملة من قبل «الميليشيات الطالبانية»، خصوصاً وأن الهند كانت من كبار الدول الداعمة مالياً وتنموياً وعسكرياً لنظام الرئيس السابق أشرف غني، ومن قبله لنظام الرئيس الأسبق حامد كرزاي. كما أن نيودلهي شاركت بقية دول العالم في رفض الاعتراف بالنظام الأفغاني الجديد. لكنها تبدو اليوم أكثر استعداداً للتعامل معه والانفتاح عليه بسبب المستجدات على الأرض الأفغانية.

وفي رأينا المتواضع أن نيودلهي قرأت هذه المستجدات بنظرة واقعية، وأن عوامل كثيرة أملت عليها انتهاج سياسة جديدة في التعامل مع نظام كابول الحالي المعزول والمحاصر دولياً. ولعل ما شجعها على ذلك هو أن حركة طالبان نفسها تحاول التصالح مع محيطها أملاً في الخروج من عزلتها المريرة وأزماتها الخانقة، وسعياً وراء نيل الاعتراف بها.

ويمكن القول أيضاً، في السياق نفسه، إن الخلافات والمناوشات العسكرية التي برزت قبل مدة بين حركة طالبان والحكومة الباكستانية حول الحدود البينية والأمن والموقف من بعض الفصائل المناوئة لطالبان (مثل جماعة تحريك طالبان المتشددة في الشمال الباكستاني) حركت شهية الهند لتقديم مبادرات باتجاه تحسين علاقتها مع النظام الأفغاني الحالي، على الرغم من توجس الطرف الأول تجاه سياسات وأهداف الطرف الثاني.

إحدى آيات تقارب الطرفين هي أن الهند أعادت في يونيو الفائت فتح سفارتها في كابول، في خطوة وصفت من قبل المراقبين بأنها بداية لعودة انخراط الجانبين مع بعضهما البعض، أملتها المصلحة.

ومن المعروف أن الهند مهدت لخطوتها هذه بإرسال 30 ألف طن متري من الغذاء والدواء والمؤن واللقاحات لمنكوبي الزلزال المدمر الذي ضرب أفغانستان هذا العام. ومن الجانب الطالباني لفت نظر المراقبين تصريح أطلقه مؤخراً نائب أمير طالبان ووزير دفاعها «الملا محمد يعقوب مجاهد» شجع فيه جنوده على تلقي التدريب العسكري في الهند.

وهذا التصريح النادر وغير المسبوق، والغريب كونه جاء على لسان ابن الملا محمد عمر مؤسس إمارة أفغانستان الإسلامية، ربما أملاه الفشل الذريع لقوات طالبان لجهة تحجيم قوة «تنظيم داعش ــ إمارة خراسان» وإفشال هجماتها المتكررة على دور العبادة والمصالح الحكومية والأسواق.

والحال، أنه بقدر ما تحتاج حركة طالبان إلى مساعدات الهند التنموية والإنسانية والاقتصادية لعلاج الاقتصاد الأفغاني المنهار، ومواجهة أسوأ موجة جفاف تضرب أفغانستان، فإن الهند في حاجة لاستعادة بعض نفوذها السابق في هذه البلاد لقطع الطريق على غريمتها الباكستانية وأيضاً لمواجهة تحركات منافستها الصينية الهادفة لتعزيز مواقعها في بلد كان خلال حكم طالبان السابق (ما بين عامي 1996 و2001) يمد الجماعات الانفصالية في إقليم تركستان الشرقية الصيني بالسلاح والتدريب، خصوصاً وأن التحرك الصيني جاء بعد أن طلبت حكومة طالبان بنفسها من شركة صينية مدعومة من الدولة العودة إلى مشروع تعدين لاستخراج النحاس.

لقد خشي المراقبون أن تحدث انتكاسة جديدة في علاقات الجانبين الحذرة في أعقاب مقتل زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي أيمن الظواهري داخل حي سكني راق في كابول في 31 يوليو الماضي، حيث قيل إن هذه الحادثة قد تدفع نيودلهي إلى مراجعة حسابها بعد تأكدها من أن طالبان وفرت الإقامة والحراسة للظواهري، وبالتالي فإن الحركة لم تلتزم بقطع علاقاتها مع تنظيم القاعدة الذي يعد الهند ضمن أهدافها الإرهابية الرئيسية.

غير أن شيئاً كهذا لم يحدث حتى الآن، الأمر الذي يوحي بأن صانع القرار الهندي مصمم على التعامل مع الأوضاع الأفغانية وتطوراتها بنظرة واقعية تحتمها مصالح بلاده الاستراتيجية والجيوسياسية وليس أي شيء آخر.