حمل وقوف مئات الآلاف من البريطانيين لساعات طويلة من أجل إلقاء نظرة وداع على نعش ملكتهم، رسالة للعالم تؤكد، كما قال أحد أساتذة القانون الدستورى المرموقين فى بريطانيا، «أن الملكية ليست دولة ومؤسسات حكم فقط، إنما هى أيضًا مجتمع».

فمن الصعب أن نجد فى أوروبا بعد أن انتقلت من عصر الزعماء التاريخيين (ديجول وتشرشل وغيرهما) إلى عصر الرؤساء «المنجزين»، جنازة مليونية يقف فيها الناس ساعات طويلة فى طوابير ممتدة من أجل إلقاء نظرة وداع على نعش زعيم أو ملكة.

إن هذا الالتفاف الشعبى حول جنازة الملكة لم يقتصر فقط على حضور 2000 شخصية عالمية للجنازة، بينهم 500 زعيم دولة، دُعوا رسميًا، إنما فى مشاعر الحب الصادقة التى عبر عنها الشعب البريطانى تجاه ملكتهم، حتى إن البعض لم يجد فى التاريخ البريطانى جنازة معاصرة كبرى إلا جنازة تشرشل فى منتصف الستينيات ليقارنها بجنازة الملكة.

وقد لعبت الملكة الراحلة إليزابيث الثانية دورًا كبيرًا فى تدعيم نموذج الملكية الدستورية أو الملكية التى تملك ولا تحكم، خاصة أنها بقيت فى السلطة 70 عامًا، وعاشت الحرب العالمية الثانية، وشهدت صعود الكتلة الاشتراكية ثم تفككها، بحيث أصبحت شاهدة على عصور متتالية وليس عصرًا واحدًا، وهنا سيُطرح السؤال: هل سيحصل الملك الجديد على نفس الشرعية والحضور الوجدانى والثقافى بين صفوف الشعب كما فعلت الملكة الراحلة، أم ستخسر الملكية جانبًا من رصيدها مع الملك الجديد؟

المؤكد أن الملكية فى بريطانيا راسخة، ولديها رصيد شعبى وقاعدة اجتماعية عريضة، لكن بلاشك لن يحظى الملك الجديد تشارلز، الذى يبلغ من العمر ٧٢ عامًا، بنفس التأثير الذى حظيت به الملكة الراحلة التى تولت العرش وعمرها ٢٦ عامًا.

إن الطوابير الطويلة التى وقف فيها الناس لإلقاء نظرة على نعش الملكة وليس جثمانها كما يجرى فى مجتمعات أخرى (الهند وبلدان آسيوية وروسيا السوفيتية)، وحضور أكثر من مليون شخص مراسم التشييع أمس، هى كلها ظواهر غير معتادة حاليًا فى البلدان الأوروبية، بما يعنى أن جذور الملكية الراسخة فى بريطانيا وشخصية الملكة الراحلة شكلا معًا مشهد الجنازة.

فالملكية البريطانية لم تترسخ عبر عقود إنما عبر قرون، وكانت نتاج تراكم طويل بدأت بصدور «الماجنا كارتا» أو الميثاق الأعظم، فى 1216 كأول وثيقة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حتى تحولت إلى قانون فى عام 1225، ووُضع ضمن كتب لوائح الأنظمة الداخلية لإنجلترا وويلز حتى الآن.

مشهد الجنازة كاشف عن وجود نظام ملكى عريق ضارب فى الجذور الاجتماعية والثقافية البريطانية، وإن تطورها التدريجى من ملكية مطلقة إلى دستورية جعلها أكثر رسوخًا، وكون الملك أصبح رمزًا وموحدًا للأمة وفوق الانقسامات الحزبية أعطاه ذلك قوة وشعبية اختيارية بين الناس دون أى إجبار.