ذات مرة تحدث عالم الفلك الأميركي الشهير، كارل ساغان (1934 - 1996)، بالقول: «إن حياة الإنسان أغلى من أن تتقيد بكوكب واحد، كما أن أجناس الحيوان تزيد من فرص بقائها بالانتشار والهجرة إلى مناطق مختلفة، فإن على البشرية أن تستكشف في نهاية المطاف عوالم أخرى، من أجل مصلحتها الخاصة على أقل تقدير».

لماذا الآن مراجعة ساغان من جديد؟
حكماً، للأمر علاقة بما أعلنته الهيئة السعودية للفضاء، الخميس الماضي، بشأن برنامج المملكة لرواد الفضاء، الذي يهدف إلى تأهيل كوادر سعودية متمرسة لخوض رحلات فضائية طويلة وقصيرة المدى.
قدّر للمملكة العربية السعودية قبل نحو 4 عقود تقريباً، وبالتحديد في العام 1985، أن تطلق أول رائد فضاء عربي ومسلم، الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، في رحلة دامت نحو 7 أيام، على متن مكوك الفضاء الأميركي ديسكفري، ومن يومها والحلم بريادة الفضاء لم يغب عن الأذهان، وقد دعمته وزخمته مؤخراً البنية العلمية في المملكة، متمثلة في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، ثم الهيئة السعودية للفضاء التي تأسست عام 2018، فيما تعتزم المملكة ضخ ما يقارب من ملياري دولار في القطاع السعودي الفضائي بحلول العام 2030.
ما الذي يهدف إليه برنامج رواد الفضاء السعودي هذا؟ وهل تتسق تلك الأهداف مع التطلعات الإنسانية الساعية لخوض سباق الفضاء من أجل الخير العام للإنسانية؟
تسعى الهيئة إلى تعظيم فرص التثاقف السعودي العلمي مع بقية تجارب العالم المتقدم، وكثيراً ما ارتبط مؤخراً مقياس تقدم الأمم بقدرتها على المشاركة في التجارب العلمية والأبحاث الدولية، وكذا المهام المستقبلية المتعلقة بالفضاء، والاستفادة من الفرص الواعدة التي يقدمها قطاع الفضاء وصناعته عالمياً.
يستظل برنامج رواد الفضاء السعودي بمظلة تنويرية واسعة، تعرف باسم «رؤية 2030» التي يقودها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ومن آيات الاستنارة في البرنامج الجديد، تحديد العام المقبل (2013) موعداً لإرسال طاقم فضائي سعودي مكون من رائد، ورائدة، وبذلك تكون المملكة قد خطت خطوة غير مسبوقة في العالم العربي والإسلامي، وعززت من المشاركة العلمية والعملية للمرأة السعودية، لا على الأرض فقط، بل في الفضاء، ولتضحى بذلك أول امرأة عربية مسلمة أيضاً، تصعد في رحلة علمية خارج الكرة الأرضية، إلى محطة الفضاء الدولية، وعلى متن كبسولة تابعة لشركة «سبيس إكس».
لم يعد التطلع إلى سبر أغوار الفضاء نافلة، بل فرض، خاصة في ظل كثير من المهددات الحياتية الحرجة، التي استدعت تصريح أحد كبار مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية عام 1980، لويس هالي، وقد كان ذلك في قلب احتدام الحرب الباردة بين حلفي وارسو والناتو، الذي اعتبر أن «استيطان الفضاء سينقذ البشرية في حال قيام حرب عالمية نووية».
واليوم، فيما التهديدات النووية المتبادلة قد أعادت كتابة التاريخ على الضد مما قاله كارل ماركس، تُظهر الحاجة الماسة للتطلع إلى الفضاء الخارجي للأرض كرديف للكوكب الأزرق.
وفي سياق متساوق مع فكر التهديدات عينها، تبدو الإنسانية مهمومة، بل محمومة، بمخاوف سقوط النيازك والكويكبات، تلك التي في غالب الظن أنهت حيوات على الكرة الأرضية قبل ملايين السنين، نباتية، وحيوانية، وربما حضارات بشرية لم نعرف أو نسمع عنها.
هنا تطفو على السطح أخبار آخر عملية تقوم بها وكالة «ناسا» للفضاء، فبعد التليسكوب العملاق، جيمس ويب، الذي يعمل جاهداً على استكشاف رحم الكون، ها هي الوكالة الفضائية الأميركية الأشهر تستعد للكوارث الفضائية المستقبلية، عبر إطلاق مركبة لردع كويكب ضخم بعيد عن الأرض، على بعد 7 ملايين ميل، ورغم أنه لا يتقاطع ولا يهدد كرتنا الأرضية في الأيام الراهنة، فإن التجربة في حد ذاتها تمهد الطريق إلى بلورة رؤية دفاعية عن البشرية، حال قدرت الأقدار ارتطام أجسام عملاقة بنا، وهو سيناريو يبدو حدوثه ومن أسف وارداً جداً.
ارتياد الفضاء لا يمكن، ولا ينبغي النظر إليه من زاوية سلبية واحدة، فهناك أرباح قد لا تبدو واضحة للعيان في التو واللحظة، ويكفي أن تمتلك المملكة طائفة من الأقمار الصناعية التجارية، القادرة على اكتشاف مرئيات الأرض، وإرغام طبقات الجيولوجيا العتيقة في صحارى السعودية ووديانها الواسعة والشاسعة، بالبوح عما في باطنها من كنوز الطبيعة، وخيرات الأرض، من مياه جوفية، ونفط، وغاز، ومعادن، عطفاً على الاستعانة بها في التنبؤ بأحوال الطقس، وربما توجيه مسارات الطبيعة، كما في حال تجارب الاستمطار، ومواجهة الحروب الإيكولوجية التي تشنها الطبيعة على بني البشر.
حكماً، لدى الهيئة السعودية للفضاء، التي ستطلق استراتيجيتها الوطنية للفضاء خلال الأشهر المقبلة، مزيد من المفاجآت السارة والأهداف التي تسهم في خدمة الإنسانية بوجه عام.
ويبقى التراكم المعرفي، الجائزة الكبرى للمملكة في برنامجها لرواد الفضاء، والسعي للجواب عن السؤال الذي لا يزال يشغل أذهان البشر: «هل نحن وحدنا الكائنات العاقلة في الكون»؟
السعودية تستثمر في البشر... تلك هي بداية التنوير الحقيقي.