سؤال ظلّ يراودني منذ أن انفجرت الأزمة الروسية - الأوكرانية، فهل ستفرز الحرب منظمات إرهابية جديدة، مثلما شهدت أفغانستان بعد الغزو السوفييتي 1979 اندفاع جماعات «إسلاموية»، بما فيها من خارج البلاد، سميّت لاحقاً ﺑ«العرب الأفغان»، لتنضمّ إلى القوى التي وقفت ضدّ الاحتلال السوفييتي للبلاد؟ ويعتبر تأسيس تنظيم القاعدة ونشاطه أواخر التسعينات مرحلة مفصلية جديدة في انتشار ظاهرة الإرهاب، والتي تُوّجت بأحداث 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001 التي استهدفت برجي التجارة العالمية في نيويورك.

كان لاحتلال أفغانستان عام 2001، وفيما بعد العراق 2003، دوراً كبيراً في «عولمة» الإرهاب، الذي شمل العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال ونيجيريا، إضافة إلى مقاتلين من العديد من البلدان الأوروبية، فضلاً عن مقاتلين من الفلبين والشيشان وآسيا الوسطى والصين، وغيرها، لا سيّما بتوفّر بعض الملاذات الآمنة والمحاضن التي يمكن أن تحصل عليها الجماعات الإرهابية، فضلاً عن بيئات ملائمة لتجنيد الشباب وتدريبهم وزجّهم في المعارك الانتحارية اللّاحقة.
وبالطبع كلّما زادت الفراغات الأمنية وعانت الدول من الهشاشة، كلّما توسّعت دائرة الإرهاب ليصبح دولياً، بفضل تدخّلات القوى وتضارب المصالح لجهات عدّة، في مقدمتها الدول الكبرى، ذلك أن تصدّع أي جبهة من جبهات الصراع العالمي ستؤدي إلى ارتفاع حدّة الصراع والاستقطاب، وهذا يقود بالضرورة إلى إحداث ثغرات أمنية يمكن للقوى الإرهابية أن تمرّ من خلالها، مستغلّة ضعف الدولة وتضعضع كيانها بغياب الاستقرار، لاسيّما في ظلّ انتعاش الهويات الضيقة وتفشي ظواهر التعصب واستشراء التطرف لأسباب دينية، أو طائفية، أو قومية، أو إثنية، أو غيرها.
وقد أثارت ظاهرة المقاتلين الأجانب إشكاليات عدة، وصراعات جانبية بين العديد من الدول، وعلى صعيد العلاقات الدولية، نظرياً وعملياً، فحتى اتفاقيات جنيف الأربع الصادرة في عام 1949 وملحقاها بروتوكولَا جنيف الصادران عن المؤتمر الديبلوماسي 1974 – 1977، تقف حائرة أمام تشخيص الوضع القانون لبعض الحالات الجديدة، فلم تتضمّن أحكامها حلولاً أو معالجات لمثل هذه الحالات، والأمر لا يتعلّق بالأحداث ذاتها، بل بتداعياتها، وبما تتركه من حيرة وتخبّط لا إنساني أحياناً بشأن التعامل مع المقاتلين الأجانب من جانب الدول التي عانت الإرهاب، أو من جانب دولهم الأصلية، فضلاً عمّا سبّبته من آثار اجتماعية ونفسية شملت الأبناء الذين ولدوا لإرهابيين ضمن عوائل كانت مشاركة، أو مضطرّة للاصطفاف مع الإرهاب.
وبقدر ما شمل الأمر «العرب الأفغان»، فهو يشمل المواطنين الأوروبيين أيضاً، فكيف يمكن التعامل مع العائدين منهم؟ وثمّة تفسيرات وتأويلات قانونية وغير قانونية بخصوصهم، لاسيّما ابتعاد بعضها عن الجوانب الإنسانية، في ما يتعلق بالمتطوعين والمقاتلين الأجانب، وكيف يمكن تطبيق اللوائح الدولية، بما فيها شرعة حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، خصوصاً الجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجرائم الحرب، وجرائم تهديد السلم والأمن الدوليين؟
وقد ارتفعت وتيرة مثل هذا التعقيد القانوني والعملي والإنساني خلال الأزمة الأوكرانية منذ اجتياح روسيا شبه جزيرة القرم، واستعادتها عام 2014، حيث نشطت بعض الجماعات الدولية المسلّحة، وتحوّلت منطقة شرق أوكرانيا إلى بؤرة لتجمع المقاتلين ضدّ روسيا، الأمر الذي يدلّ على تواطؤات مع المعارضين الشيشانيين المقيمين في أوكرانيا، حسب بعض التقديرات، فضلاً عن هشاشة الوضع الأمني، وقد انتقل قسم من هؤلاء من سوريا واصطفّ إلى جانب أوكرانيا في حربها ضدّ روسيا، وقد يؤدي الأمر إلى عودة نشاطات الجماعات المسلحة الإسلاموية في شمال القوقاز ومنطقة آسيا الوسطى في ظلّ الفوضى والحرب والسلاح المنفلت.
وشخصياً، لا أستبعد انخراط جماعات مسلحة إرهابية في الأزمة الأوكرانية، بل إنه بدأ بالفعل، وقد يكون وارداً ارتفاع وتيرته فترة ما بعد نهاية الحرب، كما أن انشغال موسكو وواشنطن بالصراع في أوكرانيا سيجعل «داعش» أكثر تمدّداً في الشرق الأوسط، مثلما كان دخول روسيا الحرب في سوريا عام 2015 حافزاً جديداً إلى اندفاع عشرات الآلاف من المقاتلين من أوروبا والقوقاز والصين إلى أتون الحرب الطاحنة في سوريا عام 2011، إضافة إلى مقاتلين عرب ومن دول إسلامية، والأمر كذلك في ليبيا التي شهدت تدخلات خارجية مختلفة.
فهل سيتكرّر النموذج الأفغاني في أوكرانيا، بنشوء ظاهرة «العرب الأفغان»، وهل ستؤدي هذه الحرب إلى انتعاش الإرهاب الدولي، خصوصاً في ظلّ دعايات قوميّة ودينية للمقاتلين الإرهابيين؟