ليس من السهل على الدول تغيير قيمها ورؤيتها الاستراتيجية والأساسيات التي تقوم عليها الدولة في الشؤون السياسية والعسكرية كلما لاح أو حدث تحولات جيوسياسية عالمية أو إقليمية، حيث يحاول رجال السياسة المخضرمون الذين يمكن تسميتهم في هذا المقام بـ «حرّاس المنهج السياسي الاستراتيجي»، المحافظة على ثبات ورسوخ منهج الدولة الإستراتيجي وحمايته من الأفكار والمقترحات الطارئة، التي تقفز أحياناً، أو تحاول فرض نفسها، بناء على أحداث سياسية عالمية أو تصعيد عسكري مجاور أو حرب تتفاعل آثارها في محيط مجاور أو مناورات سياسية بين أطراف متنازعين، وتُطرح أحياناً أخرى لأسباب اقتصادية طارئة أو عاجلة.
منذ أصقاع التاريخ، ومنذ نشوء أقدم الامبراطوريات، حافظ الحكماء، وكانوا على هيئة مستشارين مقربين من أنظمة الحكم، على رؤية واحدة استراتيجية عميقة للإمبراطورية، قد تكون رؤية سلام قائمة على احترام الجوار، أو رؤية حرب قائمة على التوسع بأي ثمن، أو غير ذلك، واستمر ذلك حتى بعد ظهور الدولة الحديثة، فورث الحكماء المستشارون، في معظم دول العالم، خلال العصر الحديث، آليات بناء وترسيخ الرؤى السياسية والعسكرية، في العلاقات الدولية، وكذلك على المحور الداخلي، ولم يسمحوا للمتغيرات الكثيرة، وكذلك للأحداث الطارئة، أن تعبث بالسياسات والاستراتيجيات الثابتة، مهما بدا الأمر مغرياً.
لكل قاعدة شواذ، ففي بعض الأحيان، لا يتمكن «حرّاس المنهج السياسي الاستراتيجي» من السيطرة على صراع القوى السياسية ذات العلاقة، كالأحزاب والمؤسسات السياسية وجماعات الضغط والمصالح والأفكار، أو الحركات الاجتماعية القوية المؤثرة، كأن يكون هناك حزبان قويان في الدولة، مثل الولايات المتحدة، ويبلغ الصراع بينهما إلى مرحلة «تكسير العظام»، وهي في هذه الحالة، استراتيجيات ثابتة وراسخة لعقود طويلة، تبدأ بالتحطم شيئاً فشيئاً، فتنهار القيم السياسية الأساسية، بسبب أخطاء تم ارتكابها، بناء على توصيات واستشارات تم تمريرها وفرضها، أدت مثلاً إلى حرب ما، كالحرب على فيتنام أو العراق، أو تبني رؤية مضادة، كتبني إدارة الرئيس أوباما لجماعة الإخوان المسلمين وتوقيع الاتفاق النووي المتسرع مع إيران وغيرها من الأمثلة الحية.
بالطبع، هناك عشرات التأويلات لما يمكن أن يحدث، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في معظم دول العالم، فهناك من يؤمن بوجود نظرية المؤامرة، وأن خلف كل ذلك التغيير هناك أصحاب مصالح يعبثون في الظلام، يخططون ويرسمون ويحاولون فرض تغيير وانحراف نحو هدف ما محدد، وهناك من يرى أنها مجرد مسألة غباء سياسي أو ضعف يسمح للبعض بفرض أفكارهم ورؤاهم، ممن يجدون الفرصة سانحة لتقديم خطة، عندما لا يتقدم أحد آخر لتقديم خطة، مثل جوزيف مكارثي، عضو مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية وينكسون، في فبراير 1950، حين قدم خطة لمحاصرة الخطر الشيوعي في الولايات المتحدة، وتسببت في حرب داخلية طويلة المدى، لم تتوقف لغاية اليوم!
لا شك أن وجود تغييرات جذرية عاصفة، يؤثر بشدة في سياج ومنعة المنهج السياسي الاستراتيجي، فقد لاحظنا جميعاً، كيف كان لجائحة كورونا أبلغ الأثر في تحول عدد كبير من الرؤى الاستراتيجية العالمية، لدرجة شعرنا أن معظم الدول تبدلت خططها واستراتيجياتها، وتحول حكماؤها من «حراس عقيدة سياسية» إلى «عمال إغاثة»، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، حيث عصف متغير «الحرب الروسية الأوكرانية» مبكراً، فعاد الصراع المحتدم، بين القوى السياسية، وسارع البعض إلى تقديم أفكارهم وخططهم المكارثية، التي ستؤدي، إذا استمرت، ليس إلى نهاية المناهج السياسية والعسكرية الراسخة، بل إلى نهاية العالم.
بنظرة واحدة ثاقبة، إلى الهوية السياسية الاستراتيجية لدولة الإمارات العربية، وحسب كلمة وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي، ريم بنت إبراهيم الهاشمي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مطلع هذا الأسبوع، التي أكدت «أن دولة الإمارات ستواصل مسارها، سواء على الصعيد الإنساني أو الدبلوماسي أو التنموي في دعم الشعوب المتضررة من الأزمات والكوارث، دون أي اعتبارات دينية أو عرقية أو سياسية أو ثقافية، وتأكيد الإمارات لضرورة احترام القانون الدولي واحترام سيادة الدول واستقلالها ووحدة وسلامة أراضيها، وكذلك المطالبة بإنهاء احتلال إيران للجزر الإماراتية، وتأكيد موقف دولة الإمارات الثابت والداعي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وفقاً للمرجعيات الدولية المتفق عليها، وتعزيز الحوار لخفض التوترات والمبادرة بالخطوات التي تمثل خير نموذجٍ لشعوبنا في ترسيخ قيم التسامح والتعايش السلمي، في وجه المحاولات المتصاعدة لنشر خطاب الكراهية حول العالم»، فإن ذلك يشير إلى أن كل ما جرى ويجري في العالم، القريب والبعيد، لم يغير من مبادئ ومنهج الدولة الإماراتية الراسخة واستراتيجياتها ورؤيتها السياسية الحكيمة، في أهمية وضرورة إرساء السلام والأمن الدوليين.