لست ناصريا، ولم أتلقَّ دروسًا في نوادي الفكر الناصري، ولا شملتني قوائم عضوية الحزب الناصري، ولم أكتب حرفا في صحفه التى تزيّنت بصورة جمال، ولم ألف رأسي يوما بشال عبدالناصر، فلست درويشًا في الحضرة الناصرية، ولم أرتدِ يومًا قميص عبدالناصر تحت الجلد، ولا تاجرت باسم الزعيم والتجارة باسمه رابحة، وتربّح منها كثيرون.

ومثلي كثير، ناصري بالفطرة، بالميلاد، منتسب، بالنسب، وفي مثل هذا اليوم الحزين ٢٨ سبتمبر أبكي ناصر، ينفطر قلبي على حبيبٍ غائب، أفتقد أبًا وسندًا، أفتقد من لم تره عيناي، وأراه حاضرا رغم الغياب، وسبحانه من سبب الأسباب.

عرفت عبدالناصر باكرًا، زمان على شط الترعة الصغيرة كنا نتسابق من يقفز عالياً من الشط للشط، وكان التحدي قائما: «لو عديت الترعة تبقى ابن عبد الناصر»، قدماي الصغيرتان القصيرتان خذلتاني وإلى الآن، لم أحظ بشرف أن أكون ابن عبدالناصر، لم أعرف اسم ابن عبدالناصر إلا يوم وفاته، والهتاف يرج المدينة الصغيرة ويخرق أجواز الفضاء: «يا خالد روح قول لأبوك ميت مليون بيودعوك».

بكاه أبي، واتشحت أمى بالسواد، ودام الحداد أربعين يوما، صغيرا كنت، لم أتبين بعدْ لماذا بكت مصر، رجالها ونساؤها، شبابها وشيوخها، ناصر.. وحتى ساعته لا أعرف سر الحزن الدفين على زينة الرجال، لماذا تنتابني نوبة من البكاء كلما أطل من كوة الزمن الصعيب هذا اليوم الحزين، أبكى حبيبًا غاب، حضوره أقوى من الغياب.

لا تسألنَّ عن السبب، ولا تجتهد في البيان، ولا تبحث في كتب التفسير، ولا تتعمق في النظريات، فقط طالع صورة جمال، ستجيبك في الحال، يا جمال يا مثال الوطنية، يكفيك نظرة من عيني جمال، تشع حنانًا، تشبع من طلته، وترتوي في الحال، جمال عبدالناصر مصري بدرجة إنسان.

أعجز عن وصف الحال، ولكن جمال صعب على النسيان، سيرة جمال يقينًا لم تُكتب بعدْ، كتبوا كثيرًا، ومطولات عن الزعيم والقائد والملهم، كتبوا عن الثائر والبطل والمنقذ، كتبوا عن الرئيس والدولة والحكم، سجلوا الأمانة والريادة ونظافة اليد، لكنهم عجزوا عن كتابة جمال الإنسان، في عطفه ورقته وعذوبته، كان إنسانًا.

سرّ جمال في إنسانيته، وسرّ جمال بلغ القلوب فأحسته، فأحبته، فسكن الحشا، لا يغادر موقعه في القلب، رحل جمال وبقي منه الإنسان، غاب جمال وإنسانيته حاضرة، المصريون يحتفلون بجمال يوم مولده ويوم مماته ويوم ثورته وفي عيد نصره وفي ذكرى هزيمته، يستملحون اسمه مغنى، وصورته على الحائط القديم، وينخرطون في ذكراها، ولا يزالون يحتفظون بصوره في صدر القاعة في قعر البيت الطيب، وكأنه جد الأجداد يطل على الأحفاد.

بكته «أم خليل»وهي تقص قصته للأيتام في ملجأها في «رام الله»، وانخرطت في نوبة بكاء، سال دمعها على صورة ناصر، وبكته عجوزٌ كلُّ بصرها في «النبطية» جنوب لبنان، وتملت صورته على الحائط، وأكرمتني لأجل خاطر جمال، وبكته نساء العرب جميعا قبل الرجال، ولاتزال قلوب تبكيه.. هل لديكم تفسير؟، هل توفر النظريات سببًا؟!، فقط لأنه جمال.

لا أبكيه تمسحًا في القميص، ولا أدارى دمعًا، ولا أخفي حبًا، ولا أغادر ذكراه، ولا تغادر مصر ذكراه، ولا تنسى من أحبها وعشق وذاب في الغرام، من أحب مصر أحبه المصريون، لا يبقى في ذاكرة المصريين إلا المحبون.. يحبون جمال.. وإن عشقنا فعذرنا أن في وجهنا نظر.