هل كان خيار التدخل العسكري في أوكرانيا والتي تعد قواتها المسلحة - البالغ عددها قرابة 297 ألف جندي - القوة العسكرية رقم 21 في تصنيفات الجيوش العالمية، ناهيك عن الدعم النوعي الاستخباراتي والتسليحي والتكتيكي من الولايات المتحدة ودول الغرب الحليفة لها، قراراً سليماً لبوتين؟ أم أنه جزء من خطة أكبر في ظل التراجع الروسي والدفاع مع الهجوم المضاد النوعي الأوكراني؟ حيث حرك بوتين قطعة الشطرنج الأولى وهي قرار روسيا بتفعيل التعبئة العسكرية الجزئية، وهو ردع غير مباشر ورسالة للخصوم ومن يدعمهم بأن روسيا تنوي التواجد في هذا الصراع لفترة طويلة من الزمن.

ولكن هل يعني هذا أن 300 ألف جندي سيصبحون مقاتلين محترفين بين ليلة وضحاها؟ بينما الوحدات الروسية في الميدان مستنفدة وبشدة ولا تزال تواجه مشاكل لوجستية شديدة، فضلاً عن نقص في الأسلحة والمعدات والمركبات!

فبعد أن تبيّن أن المقاومة العسكرية الأوكرانية الهجينة أكثر فاعليةً مما توقعه البعض، حرك بوتين قطعة الشطرنج الثانية والمتمثلة في استنزاف الاقتصاد الأوروبي وتعطيل موارد أساسية لحركة الصناعة بكل أنواعها والتكنولوجيا ومنظومة صناعة الغذاء في العالم، ومن ثم الضغط على الغرب ليتوقف عن إرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا وأنظمة دفاعية وهجومية ذكية لتعزّيز الهجمات المضادة الأوكرانية، وذلك من خلال سلاح الطاقة وتوقف مفاجئ في الأنابيب التي تنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، مما ترك غاز الميثان السيئ يتدفق في بحر البلطيق، حيث إن الأضرار التي لحقت بخط أنابيب الغاز نورد ستريم 1 و2 هي من نوع حروب «المنطقة الرمادية»، والذي يترك القليل من الخيارات الجيدة للانتقام وصعوبة معرفة من يقف خلف تلك الحوادث.

وكانت قطعة الشطرنج الثالثة التي حركها بوتين هي التوقيع على أربع معاهدات لضم مناطق دونيتسك ولوهانسك وخيرسون وزاباروجيا في أوكرانيا، وذلك بعد إجراء استفتاءات في تلك المناطق، واستخدام روسيا الجمعة الماضية حق النقض (الفيتو)، لمنع تبني قرار في مجلس الأمن الدولي يدين قيامها بضم أربع مناطق أوكرانية، فيما امتنعت الصين والهند والبرازيل والغابون عن التصويت على مشروع القرار الذي أعدته الولايات المتحدة وألبانيا وأيدتهما فيه عشر دول أعضاء، ليحرك بوتين بعدها قطعة الشطرنج الرابعة بإطلاق تهديداته باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية للدفاع عن المناطق الأربع التي أعلنت الانضمام لروسيا مؤخراً. فالتدرّج في تصعيد الحرب وصولاً للمرحلة الثالثة والتي رمى بها الكرة في ملعب أوكرانيا لتصبح معتدية بعد أن كانت معتدى عليها، هي قطعة الشطرنج الخامسة التي حركها بوتين لدفع أوروبا للضغط على أوكرانيا لقبول السلم المنقوص.

وفي ظل تهديد أزمة اقتصادية مهيمنة في أوروبا هذا الشتاء، ومعاناة معظم البلدان في أسوأ حالاتها من ارتفاع الأسعار، يتساءل الكثيرون عما إذا كان حلفاء أوكرانيا في الغرب قادرين على الاستمرار في إرسال الأسلحة؟

ويبدو كما لو كانت أوروبا تحارب نفسها في تلك الحرب ولاسيما وهي تعلم أن تحريك الأسلحة لن يحرك الجغرافيا! وهناك سلسلة جديدة من العقوبات ضد الدولة الروسية وكبار المسؤولين الروس ورجال الأعمال، واستهداف المشتريات العسكرية وشبكات التهرّب من العقوبات، مع تشديد ضوابط التصدير لزيادة الضغط على الكرملين، وهي ستجبر بوتين على تحريك قطعة الشطرنج السادسة وإعلان هدنة وقف القتال، بعد أن اقتطع الأراضي الأوكرانية التي جاء في الأساس ليضمها إلى روسيا، وبالتالي تحدي قرار فرض حد أقصى لسعر شراء النفط الروسي وتقييد عائدات روسيا، والتلويح بتكتل لرفع أسعار الغاز عالمياً، بجانب خلق بؤر توتر في العالم مع الشركاء الاستراتيجيين في حلف عالم متعدد الأقطاب والتي ستشعل بدورها حروب أسعار الطاقة العالمية، وهي قطعة الشطرنج السابعة وحركة «كش ملك» قد يصاحبها إطلاق بنك روسي وطني للعملات المشفّرة للتعامل مع أسواق الطاقة العالمية بالتعاون مع الحلفاء، ولربما عملة عالمية مشفّرة لأسواق الطاقة بالتعاون مع إيران والصين وغيرهما من الدول.
* كاتب وباحث إماراتي متخصص في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات