ظهر زعيم «حزب الله» على التلفزيون ليقول أمرين: إنه موافقٌ على ما اقترحه الوسيط الأميركي بشأن حدود لبنان البحرية مع إسرائيل - وإنّ نظام الملالي في إيران قوي ولا ينبغي الخشية عليه. وفي الوقت نفسه كان الإيرانيون يعلنون عن إطلاق سراح أميركي من أصل إيراني كان محتجزاً لديهم من سنوات. وشاع نتيجة ذلك أن الأميركيين أفرجوا عن عدة ملياراتٍ من الدولارات لصالح إيران.

وعلى مستوى آخر، أجرى الدكتور سمير جعجع حديثاً تلفزيونياً أعلن فيه عن ترشيح النائب ميشال معوض لرئاسة الجمهورية، هو يقدّر أنّ معوض يستطيع أن يجمع من حوله أصوات خمسين نائباً من المعارضين والمستقلين. وظهر أخيراً الزعيم وليد جنبلاط على التلفزيون أيضاً ليمتدح حكمة الحزب المسلَّح والثناء هذه المرة على قدراته الدبلوماسية. وحتى الدكتور جعجع المعارض الرئيسي للحزب المسلح في لبنان، ما اعترض على الصفقة التي توشك أن تجري على حدود لبنان البحرية.

نعم، هناك صفقة فيما يبدو بين الإيرانيين والأميركيين تشمل حدود لبنان البحرية، ونوع من التحسن بشأن إطلاق سراح الأميركي وبعض الأموال. ولا يبعُدُ أن تكون هناك عودة إلى مفاوضات النووي. وإلى ذلك يبقى ملف الرئاسة اللبنانية حاضراً. فالحزب المسلَّح ومن ورائه رئيس مجلس النواب يريدان سليمان فرنجية للرئاسة كما أرادا «عون» من قبل. ويومها عام 2016 وعدا فرنجية بالدعم بعد عون؛ وها هما يقومان بذلك خطوة خطوة. الأميركيون أيام ترمب وربما قبله أظهروا تأييداً لميشال معوض. وربما ما كانوا ضد إعلان جعجع عن تأييده. وستكون نتيجة هذا الاختلاف الظاهر حصول فراغ في الرئاسة لا ينتهي إلا إذا سلّم الأميركيون بفرنجية، باعتبار أنّ مصالحهم ومصالح إسرائيل مع الحزب وإيران تتجاوز عواطفهم تجاه ابن معوَّض! أما معارضة جعجع والاستقلاليين فيمكن كبحها بالدعوى التي تجددت ضد جعجع بسبب أحداث عين الرمانة والطيونة الشهيرة التي قُتل فيها سبعة من الشيعة، وصارت ذريعة لوقف التحقيق في جريمة انفجار المرفأ المدوية!

وما دامت الصفقة بهذه الضخامة، لماذا لا يجري الضغط باتجاه فرنجية الآن؟! هناك أولاً عدم القدرة على إرضاء جبران باسيل صهر عون وخليفته، وهو يريد أيضاً الرئاسة، ويريد ثمناً للتنازل إن لم يكن ذلك ممكناً. والحزب يترجح لهذه الجهة بين الموافقة على إقامة حكومة جديدة تُرضي «عون» وصهره وتكون بمثابة التمديد لعهده الميمون - أو تعويم الحكومة الحالية مع تعديلات لصالح عون وصهره. ومن جهة أُخرى فإنّ ترفيع فرنجية الآن فيه قهرٌ لمعظم المسيحيين ومنهم البطريرك الراعي. إنما في النهاية فإنّ المسيحيين يكرهون الفراغ أكثر مما يكرهون انتخاب فرنجية، وإنما ينبغي تخويفهم بالفراغ من أجل التسليم في النهاية.

ولنعد إلى الحدود البحرية، فقد سبق لكلٍ من عون والحزب أن ناورا طويلاً وفيما بينهما وزايد كلٌّ منهما على الآخر عندما كان الرئيس بري - حليف الحزب - مع الخط 23 للحدود البحرية، كما كان رأي الحكومة اللبنانية منذ عام 2011. عون رأى فجأة قبل نحو السنتين أن حدود لبنان البحرية تقع عند الخط 29 وليس 23، ونتيجة ذلك توقفت المفاوضات مع الإسرائيليين، وراح الإسرائيليون يقولون إنهم سيبدأون باستخراج النفط والغاز من حقل كاريش الداخل في مجال الخط 29 في مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي، فهبَّ حسن نصر الله لاستخدام مسيّراته والتهديد بالحرب إن جرى الاستخراج قبل الاتفاق. وأخيراً، حصل التقارب لأنّ الأميركيين والإسرائيليين محشورون بالانتخابات في شهر نوفمبر (تشرين الثاني). الديمقراطيون يخشون الخسارة في الانتخابات النصفية، وإسرائيليو لبيد يخشَون الخسارة في مواجهة نتنياهو، والإيرانيون أزعجتهم كثيراً المظاهرات الصاخبة بالداخل في وقتٍ تعطّلت فيه المفاوضات حول النووي. ولذلك بدت مصلحة كبرى لسائر الأطراف في إنجاز شيء في الأمرين في أكتوبر (تشرين الأول): النووي والحدود البحرية اللبنانية، لتجنب أخطار تجدد النزاع المسلَّح.

وهكذا بدت انفراجاتٌ في العلاقات بين إيران والولايات المتحدة (إطلاق سراح الأميركي المحتجز، وتسريع الولايات المتحدة لوساطتها بين لبنان وإسرائيل باتجاه إنجاز اتفاق الحدود). وتطمح إيران - من دون أن تعترض الولايات المتحدة حتى الآن - للمجيء برئيس مسيحي في لبنان على هواها كما حصل مع عون عام 2016. وهنا لا ينبغي أن ننسى أنّ المرشد الإيراني مريض، ولا اتفاق على خلافته؛ ولا بد من إحلال الهدوء بالداخل بالقوة لكي لا يكونَ هناك انطباع عن ضعف النظام الإيراني، الذي نفاه حسن نصر الله بشدة من دون أن يكون هناك مبرر ظاهر لذلك، ربما باستثناء القلق لدى الجمهور الشيعي في دول النفوذ الإيراني التي يشيع فيها الاضطراب أصلاً!

تلجأ إيران لنشر الاضطراب في المنطقة عندما تريد إظهار الانطباع بسوء العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وما نجحت في ذلك مع «الجهاد الإسلامي» في غزة قبل شهرين. فمضت باتجاه العراق بقصف المنطقة الكردية بشدة - وباتجاه اليمن عندما رفض الحوثيون تمديد الهدنة التي انتهى أمدها قبل أيام. وهذا إلى تحركات غامضة بين الأميركيين والميليشيات الإيرانية في سوريا، التي لا تهدأ الغارات الإسرائيلية على الإيرانيين والحزب وقواعدهما فيها. ووحده لبنان حيث يمتلك الحزب السيطرة كلَّها يمكن إجراء أو محاولة إجراء صفقة دونما خشية من تدخل طرفٍ أو أطراف محلية أو إقليمية أُخرى.

هل تنجح هذه التخمينات والاستظهارات؟ الوقت قصير جداً ويتناول شهر أكتوبر وحسب. ففي نوفمبر لا تحصل الانتخابات في الولايات المتحدة وإسرائيل فقط؛ بل وتنتهي رئاسة عون في آخر يومٍ من أكتوبر، ويطلُّ لبنان على رئيسٍ جديدٍ أو الفراغ. والرئيس هو الذي يوقّع الاتفاقيات الدولية ومن ضمنها اتفاقية الحدود البحرية، وقد رجحنا عدم حصول انتخابات الرئيس، فمن الذي يقرع الجرس؟

لا أحد يريد الحرب، وإن هدَّد بها زعيم الحزب دائماً. فاتفاق الحدود البحرية فرصة جيدة للطرفين ويخدم سمعة نصر الله كما خدمه الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، وحرب عام 2006، فإنْ لم يجرِ الاتفاق لأي سبب تتجدد أخطار الحرب وليس من جانب الحزب المسلح فقط؛ بل ومن لبيد ونتنياهو اللذين يتنافسان بالحرب على أصوات الناخبين!