لم تمض الأيام في العراق كما كان منتظراً منها، النتائج جاءت على غير هوى وطموحات بلاد الرافدين، فمنذ أكتوبر عام 2021، عاشت بغداد حالة استقرار، ومحاولات جادة لاستعادة هوية المؤسسات الوطنية، وتم انتخاب رئيس للبرلمان، على أمل استكمال الاستحقاقات الدستورية، لكن ثمة حواجز، قطعت الطريق أمام انتخاب الرئيس.
ورئيس الوزراء، وعاد العراق إلى أجواء الصراعات والتنافس والاشتباكات، التي كادت تصل إلى حرب أهلية، لولا وجود حكومة تتسم بالحكمة والرشد، في ضبط إيقاع المشهد بشكل سريع، استطاعت إنقاذ البلاد من أجواء عاشتها من قبل بعنوان «الفوضى والتخريب والتقسيم».
الآن في أكتوبر الجاري، يمر عام على ما كان مأمولاً، العراق بين «أكتوبرين»، الآمال في الاستقرار باتت قاب قوسين أو أدنى، من الدخول في المجهول، فقد شاهدنا الفترات الماضية صراعات كبرى بين القوى السياسية، وأجنحتها العسكرية، كادت تودي بمستقبل العراق، فبعض القوى السياسية، رأت أنها الأحق في إدارة الدولة وتشكيل الحكومة منفردة.
والبعض الآخر لا يزال يراهن على تكرار سيناريوهات ماضية، بهدف تحقيق أكبر قدر من المكاسب، وخلق صيغ جديدة لإعادة ترتيب الأوراق في المشهد العراقي الجديد، بينما أطراف ثالثة وقفت على مسافة واحدة من الجميع، بدعوى أن العراق يجب أن يكون لجميع العراقيين.
وسط هذه الاتجاهات الثلاثة، عجز العراق عن أن يخطو خطوة إلى الأمام سواء بانتخاب رئيس للبلاد، أم رئيس للحكومة، ودخلت بغداد في دوائر مظلمة من العناد السياسي.
وفرض الإرادات، والنظر إلى المصالح الضيقة، كل الأطراف والقوى لا تزال تتمسك بمواقفها السياسية، الأمر الذي انعكس على المسارات السياسية للبلاد، تراجعت الحيوية في شرايين مؤسسات الدولة، فلم تستطع حكومة تسيير الأعمال اتخاذ قرارات طموحة وشجاعة، مثل التي كانت تتخذها قبل أكتوبر 2021، فهذا الصراع لم يمكن الحكومة من حرية اتخاذ الإجراءات المناسبة لمصلحة الشعب العراقي، وسط المتغيرات والتحديات العالمية الكبرى التي قطعاً يتأثر بها العراق.
وفي مقدمتها الحرب الروسية - الأوكرانية، وتداعيات جائحة كورونا، فضلاً عن وجود تعقيدات إقليمية ودوليــة متشابكـــة، تلقـــــي بظلالهــا على الجغرافيا العراقية، غير أن هذا الصراع عاد بالعراق إلى مشهد المظاهرات بطابعها المسلح، وسقوط عشرات الضحايا والجرحى، بما زاد من تعميق الجرح، وعدم الثقة بين الحكومات السياسية العراقية.
المرحلة التي وصل إليها العراق الآن، والنتائج التي جاءت عكس مقدمات أكتوبر 2021، تجعلنا نتساءل: إلى أين يتجه العراق؟ وما المطلوب لتعديل مسار الدولة وحمايتها من عودة الحديث عن سيناريوهات التقسيم والفوضى؟
أرى أن الأوضاع في العراق، تستوجب وبشكل سريع العمل في مسارات عدة، أولها يتمثل في ضرورة وأهمية العمل على استكمال بناء مؤسسات الدولة، من خلال انتخاب رئيس للبلاد، ورئيس للوزراء، وفي حال تعذر ذلك، فلا مناص من الاحتكام لصناديق الاقتراع، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة.
المسار الثاني يعتمد على ضرورة التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات بين الفرقاء السياسيين، للوصول إلى مفهوم مشترك وأرضية وطنية واضحة، تضع محددات لمعنى الأغلبية، التي يحق لها تشكيل الحكومة.
أما المسار الثالث، فيطالب بفصل المسار السياسي عن المسارات الأمنية والعسكرية، سيما أن هناك جماعات مسلحة مثل «داعش» وروافدها، بدأت تستعيد عافيتها في ظل حالة عدم اليقين السياسي التي يعيشها العراق، ومن ثم فإن الاستغراق في الصراع والخلط ما بين السياسي والعسكري، والأمني، من شأنه أن يفتح أبواباً واسعة لعودة التنظيمات الإرهابية من جديد.
المسار الرابع: يدق جرس إنذار بخطر محاولات إبعاد وعزل العراق عن محيطه العربي، فالتجارب السابقة أثبتت أن سلامة الجسد العراقي تكمن في اللحمة والوحدة العربية، فلو تأملنا ما حدث خلال العامين السابقين لإجراء الانتخابات، نجد أن بغداد قد عادت لدورها الطبيعي في استضافة المؤتمرات الإقليمية والدولية الكبيرة، واستضافة الشخصيات العالمية مثل بابا الفاتيكان، وعقد القمة الثلاثية المصرية - الأردنية - العراقية في يونيو 2021، ثم قمة بغداد للتعاون والتنمية في أغسطس 2021.
إذن، ما بين الصراعات الدائرة والمسارات المقترحة، لا بد أن نؤكد مفهوماً وطنياً عراقياً، ينطلق من أن تقسيم وتمزيق العراق، لن يصب في مصلحة أي من الأطراف المتصارعة، وأن الوقت لم يعد في صالح مستقبل العراق وشعبه، وأن الخروج من هذه الحالة، بات هو المسار الإلزامي.
التعليقات