النفط هذه السلعة غيرت وجه الحضارة الإنسانية وأشاع نورها الدنيا كلها، من أكثر السلع تداولاً على المستوى العالمي، منذ أوائل قرن النفط المنصرم مروراً بالحربين العالميتين المدمرتين بنازيتهما وبلشفيتهما ثم الحربين الكورية والفيتنامية وحروب عام 1956 و1967 و1973م واحتلال الاتحاد السوفييتي السابق لأفغانستان عام 1979م والحرب الإيرانية - العراقية 1980 - 1988 واحتلال العراق للكويت 1990م وتحريره عام 1991 وغزو أمريكا لأفغانستان 2001 واحتلال أمريكا للعراق 2003م باحتياطيه النفطي الكبير.

وأخيراً وليس الأخير الحرب الروسية - الأوكرانية التي أحدثت تطوراً خطيراً في سلعة النفط وأسعاره خاصة في القارة الأوروبية التي تعتمد إلى حدٍّ كبير في الطاقة على النفط والغاز الروسيين، فالنفط لوحده تستورد تلك القارة منه (4.5) ملايين برميل يومياً.

واليوم أصبح العالم يعيش أزمة طاقة نتجت عنها صراعات وحروب واحتلال، ولعل غزو روسيا الأخير لأوكرانيا يبرز ذلك، ولذا فإن الصورة قاتمة متشائمة غير مشجعة وكأن النفط قد ينفد غداً، رغم عدم تأييدنا لهذه الصورة التشاؤمية عن نفاد النفط مؤيدين الصورة التي تؤيد بقاء النفط مع بقاء البشرية.

ومن يرصد السياسة النفطية الخارجية الأمريكية على مدى الستة عقود الماضية يدرك ذلك بوضوح فهناك رابط قوي بين حروب أمريكا في العالم عامة والخليج العربي خاصة فأين وجد النفط يبرز التدخل الأمريكي سلماً أو حرباً كما حدث في غزو العراق، ثم تصريح بوش الابن وبلير ورامسفلد بأن ذلك الغزو ليس من أجل النفط، فالتاريخ الأمريكي منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية يؤكد أنها دولة تدير الصراعات والنزاعات والتدخلات في شؤون الدول الداخلية وتشن الحروب من أجل النفط، وأمن إسرائيل امتداداً لأمنها القومي ويمتد ذلك إلى حلفائها في أوروبا واليابان.

تلك الدول التي تعتمد على استيراد النفط بشكل أكثر من الولايات المتحدة، وتستكمل المعادلة في الصين التي تتمتع باقتصاد كبير ينمو بقوة ويعتبر ثاني مستهلك للنفط بعد أمريكا لكن سياستها الخارجية النفطية هادئة تبتعد عن الحروب على عكس الولايات المتحدة الأمريكية التي من الممكن أن تشن حرباً من أجل رائحة النفط مثلها كسمك القرش الذي يشم رائحة الدم من على بعد مئات الأميال.

هذا رغم أن البترول ينتج في أكثر من 100 دولة حول العالم لكن تواجه دولٌ عديدة صعوبات كثيرة لزيادة إنتاجها، بل وأصبح إنتاج بعض الدول يتناقص عاماً بعد آخر، وتواجه دولٌ أخرى مشاكل عدة في العثور على النفط رغم حجم استثماراتها الكبيرة في مجال التنقيب والاستكشاف عن النفط، إلا أن دولاً أخرى احتياطيها المؤكد يزداد عاماً بعد آخر كدول الأوبك ودول الخليج العربي التي تسبح على محيط واسع من النفط، رغم أن دولتين هما فنزويلا وروسيا تسيطران على احتياطي نفطي كبير ومعهما نفط بحر قزوين، إلا أن بترول الخليج العربي يبقى الفارس الفائز بالسباق في حلبة سباق النفط العالمية.

وإذا كانت الأوبك وحلفاؤها في اجتماعهم الأخير في مقر المنظمة في العاصمة النمساوية فيينا قد اتخذوا قراراً تاريخياً نص على تخفيض الإنتاج مليوني برميل يومياً يبدأ مفعول سريانه اعتباراً من شهر ديسمبر، ويعد هذا أكبر خفض منذ جائحة كورونا.

هذا القرار جاء والمجتمع الدولي يواجه بدايات ركود اقتصادي نتيجة للهجوم الروسي على أوكرانيا، تبعه انتهاج البنك المركزي الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة تباعاً.

هذه الأحداث المتوالية ليس أمام الحلف النفطي سوى السعي لاتخاذ قرار مدروس بدقة فائقة، أمام هذا الركود الاقتصادي الذي ترك أثره على أسعار النفط التي بدأت مسيرتها نحو التدني فبلغ أقل من 90 دولاراً للبرميل، بعد أن بلغت 120 دولاراً وقبلها 139 دولاراً للبرميل.

القرار النفطي الذي تزامن مع الغزو الروسي لأوكرانيا ووقوف كل من أوروبا وأمريكا كمحور واحد ضد الروس مؤيدين الأوكرانيين، قرار (23) دولة وليس قراراً سعودياً، فالسعودية مؤسس رئيس للأوبك، وهي العمود الفقري للمنظمة لكنها ومع (قوتها) هذه لها صوت واحد يتساوى مع الجميع في قوة التصويت وليست على سبيل المثال كقانون التصويت الذي تطبقه وكالة الطاقة الدولية الذي يمنح اليونان (1) صوت وأمريكا (47) صوتاً طبقاً لاستهلاكها من النفط.

ثم إن هذا القرار يأتي رغم حالة عدم اليقين التي تحيط بعجلة الطلب على النفط وسلع أخرى تستوردها دول العالم بدون تمييز، رغم أن وكالة الطاقة الدولية تتوقع نمو الطلب على النفط لعام 2022 عند (1.8) مليون برميل يومياً، وعند الأوبك (3.36) مليون برميل يومياً لنفس العام، وبذا وقبل التخفيض يصبح الاستهلاك بحدود (100.29) مليون ب/ي.

وإذا عرفنا أن إجمالي إمدادات النفط من خارج الأوبك (65.74) مليون ب/ي لعام 2022 بينما إجمالي أوبك قبل التخفيض بحدود (28.716) مليون ب/ي، وحسب توقعات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية فإن إمدادات النفط من خارج المنظمة (65.78) وبالطبع فإن الولايات المتحدة تتصدر قائمة المنتجين من الأوبك وخارجها بإنتاجها من النفط الأحفوري والغاز الصخري (17.5) مليون ب/ي.

وإذا عرفنا أيضاً أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يبلغ مخزونها الاستراتيجي الإجمالي (2.6) مليار برميل، وأضفنا إلى هذا أن السوق الدولية للنفط أصلاً مشبعة بالنفط الفائض الذي يبلغ أكثر من (2) مليون برميل تبحث عن المشترين لأدركنا صواب قرار الأوبك والمتعاونين معها.