بدأت الأحداث تسير في اتجاه معاكس تماماً لذلك المسار الذي كان يريده ويخطط له زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. فعلى مدى ما يقرب من عشرة أشهر كاملة، وبالتحديد منذ إعلان النتائج النهائية للانتخابات العامة التي جرت في العراق (10/10/2021) وحتى إعلان الصدر اعتكافه واعتزاله العمل السياسي، فشل في حمل البرلمان على اختيار رئيس جديد للجمهورية، وبالتبعية، فشل في فرض مشروعه السياسي المعاكس لكل شركائه فيما يعرف ب«البيت الشيعي». أراد الصدر أن يضع نهاية لحكم «المحاصصة السياسية»، وأن يقود مشروعاً وطنياً للإصلاح، وعمل من أجل تشكيل «حكومة أغلبية سياسية في العراق» من شأنها أن تأخذ بالعراق مجدداً نحو مسار الإصلاح والتغيير.
فشل الصدر في مشروعه لأنه لم يستطع تجميع ثلثي البرلمان لتأمين نصاب انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، لأن تحالفاته لم توفر ثلثي الأعضاء، كما أكدت فتوى المحكمة العليا، كشرط لقانونية انعقاد جلسة انتخاب الرئيس. لم يستطع الصدر لأن منافسيه في «إطار التنسيق» الذي يضم باقي كل الأحزاب والكتل الشيعية كان يملك ما يسمى ب«الثلث المعطل». ورداً على هذا الفشل اتجه الصدر في نهاية الأمر إلى العمل من أجل حل البرلمان، وإجراء انتخابات عامة مبكرة في أقرب وقت، لكنه لم يستطع لأن حل البرلمان يتم إما عن طريق البرلمان نفسه، أي أن يجتمع البرلمان في جلسة عامة ثم يقرر حل نفسه، وهذا ما كان يرفضه الصدر منذ انسحاب نوابه، وإحلال نواب آخرين معظمهم محسوبون على «إطار التنسيق الشيعي». كان الصدر يخشى من اجتماع البرلمان حتى لا تصدر عنه قرارات لا يريدها، خاصة انتخاب رئيس جديد للجمهورية كما يريد «الإطار التنسيقي».
المعادلة السياسية باتت عصية على كل حل، لذلك لجأ إلى الشارع السياسي واحتل أنصاره المنطقة الخضراء حيث المقار الحكومية والسفارات، وسيطروا على مقر مجلس النواب ما دفع أنصار «الإطار التنسيقي» إلى التظاهر أيضاً، ولكن على حافة «المنطقة الخضراء»، ما أثار مخاوف من أن تكون «الحرب الأهلية» هي الحل. وسط هذا كله، وفجأة، ومن دون مقدمات، ومن دون استشارة أنصاره، أمر الصدر بانسحاب جماعاته خلال 60 دقيقة فقط، من المنطقة الخضراء في بغداد، بعدها قرر الاعتكاف واعتزال العمل السياسي.
الآن، يحدث كل ما عمل الصدر على منع حدوثه. اجتمع البرلمان بعد أن تخلى الكرد والسنة عن تحالفهم معه، وتم انتخاب عبد اللطيف رشيد رئيساً للجمهورية، بعد نجاح مساعي إقناع مسعود البرزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني بالتخلي عن مرشحه لرئاسة الجمهورية، في مقابل أن يتخلى الاتحاد الديمقراطي الكردستاني هو الآخر عن مرشحه. وبمجرد إعلان النتيجة قام رشيد بتكليف محمد شياع السوداني مرشح قوى «الإطار التنسيقي» لمنصب رئاسة الحكومة.
التصفيق الحاد الذي حظي به محمد شياع السوداني عند تسميته رئيساً للحكومة الجديدة كان بمثابة لطمة شديدة القسوة، ليس لشخص مقتدى الصدر فقط، بل لمشروعه السياسي، ولدور التيار الصدري في الحياة السياسية. رئيس الحكومة الجديدة بدأ إجراءات وحسابات تشكيلها، وسط حالة غير مسبوقة من ضبابية الرؤى بالنسبة للمستقبل ودور الصدر وتياره في المعادلة السياسية الجديدة.
التساؤلات كثيرة الآن بخصوص مستقبل الصراع السياسي في العراق من منظورين، أولهما ما إذا كان بقي لمقتدى الصدر من دور ومصداقية في الحياة السياسية في العراق بعد الانهيار المأساوي لمشروعه، وثانيهما هل سيعطي «الإطار التنسيقي» فرصة جديدة لإعادة ترويض مقتدى الصدر، وإفساح مجال عام لمشاركة الصدريين رغم قرار الحظر الذي أعلنه مقتدى الصدر بالامتناع منعاً باتاً عن التعامل بأي شكل من الأشكال مع الحكومة الجديدة، أم هل سيقرر «الإطار التنسيقي» استغلال فرصة افتقاد الصدر وتياره لتوازنهما للإجهاز عليهما سياسياً. أسئلة كثيرة ما زالت محكومة بفهم «لغز» الغياب السياسي المثير عن الحياة السياسية في العراق.
التعليقات