منذ ان اعلن عن زيارة قداسة البابا فرنسيس الاول الى البحرين، وثمة تساؤل مفاده: ما الذي يجعل البحرين مكانًا ذا خصوصية مسيحية لاستقبال اكبر زعيم ديني للمسيحية الكاثوليكية في العالم؟ بعيدًا عن عبارات التقدير والترحيب التي قد تجد سياقها الطبيعي في استقبال البحرين لضيف كبير بهذه الاهمية الروحية للعالم، نجد ان التساؤل الأقرب للواقع «ولماذا ليست البحرين من تستقبل سيد الفاتيكان، وخليفة القديس بطرس «1»؟ فلطالما كان مشرقنا مهد الديانات السماوية «الديانات الابراهيمية» وموطن ميلاد رسلها. ولم تكن المسيحية يومًا ديانة وافدة الى الشرق الاوسط، بل ولدت من رحم مشرقنا، وانطلق المبشرون بها من ارضنا، وتحمل المؤمنون برسالتها كافة اشكال الاضطهاد في القرون الأولى الميلادية «2»، في زمن كانت أوروبا تتبع الوثنية، ويحاسب المسيحي على ما تخفيه الصدور، قبل ان تصبح المسيحية دين الإمبراطورية.

فيما بقي المشرق يحتفي بثقلة الديني، وتنوعه الطائفي، وبقيت مجتمعاته بعفويتها تعطي دروسا في التعايش والتسامح بين الناس على اختلافهم. لكن لنعترف ان الصراعات والحروب في العصر الحديث، وبروز الفكر المتطرف الذي اعتاش على بيئة الازمات في مشرقنا، ووجد طريقه الى مكتباتنا، ومدارسنا ومنابرنا الدينية، وشاشتنا التلفزيونية، ادى الى تراجع كبير في مساحات التسامح داخل المجتمعات في المنطقة العربية، وصنع واقعا لا يشبه الشرق الأوسط الذي عرفه الاجداد، ولعل ما تعرض له المسيحيون في «عراق السريانية» و«سوريا القديس توما» «3» خلال السنوات العشر الأخيرة من قتل، وخطف، وتهجير قسري، واستيلاء على الممتلكات «4»، كافٍ لندرك ان الإبقاء على التعايش وتقبل الاخر في مشرقنا بات حالة صمود امام سياط التطرف على ظهور مجتمعاتنا.

امام هذا الواقع، حافظت البحرين على روحها النقية، وبقيت يداها ممدودة لكل الأديان، وكأن المنامة بتنوعها الثقافي والديني تصلح ما افسده التطرف في بقاع أخرى. وهذا بطبيعته يعود الى الانسان البحريني الذي لا يصنع حاجزًا نفسيًا مع المختلف عنه، ولا يقف بموقف عدائي من المسيحية التي كانت يومًا جزءا من تاريخ بلاده في القرون الأولى «5» واحتضنت ارضها كنائس المسيحية قبل محيطها الخليجي «6» كما يشكل المسيحيون المواطنين جزءا من نسيجها المجتمعي، واليوم يقود ملكها الشجاع جلالة الملك المعظم معركة نبذ التطرف والعنصرية، ورفض الاخر، وتعزيز التسامح والتعايش الديني، وترسيخ قيم سلام الشجعان الذي نحتاجه في الشرق الاوسط اكثر من أي وقت مضى. أتذكر جيدًا لقائي الذي دام لثلاث ساعات مع النائب الرسولي في شمال الجزيرة العربية السابق قداسة المطران الراحل كاميلو بالين -بعد انتقال المقر الرئيس للنيابة الرسولية من الكويت الى البحرين في العام 2012- «7» يومها تحدثنا عن أهمية «الكنيسة» في حياة الناس باعتبارها لا تشكل دار عبادة فحسب، بقدر ما تشكل مجتمعا، ومؤسسة تربوية، و«مدرسة» استفاد الكثير من أبناء المشرق من فرص التعليم التي منحتها لنا دون تمييز، وعندما سألته عن البحرين التي باتت المقر الرئيس لإقامته، لم يحتج المطران الراحل إلى وقت لترتيب عباراته التي شعرت انها خرجت من القلب، ونقلت التقدير والامتنان الكبير الذي تحمله النيابة الرسولية لجلالة الملك، ذكر لي يومها المطران الراحل الاستعداد الذي ابداه جلالة الملك لتقديم كافة اشكال الدعم الإنساني للمسيحيين العراقيين الذين وجدوا انفسهم مهجرين عن ديارهم بفعل جرائم تنظيم الدولة «داعش» الإرهابي في العراق، هذه القيم الإنسانية تجعلك تدرك ان التاريخ سيكتب بحروف من ذهب اسماء من صنعوا السلام الإنساني لا من صنعوا الحروب والتشريد، وسيتذكر التاريخ من مد يد العون حين حمل المسيحي العراقي صليب ألم التهجير عن الأوطان.

واليوم عندما انظر كصحفية عربية من «ارض المعمودية» «8» نشأت في وسط مجتمعي، ومؤسسة تربوية وتعليمية كاثوليكية، لا أرى باحتضان البحرين لحوار «بين الشرق والغرب من اجل التعايش الإنساني» امرًا طارئًا او مصطنعا في بلد يقدم قائده وشعبه يوميًا دروس حياتية بتقبل الاخر. كما ان هذه المكانة الحضارية للبحرين واقعيًا لا تصنعها قاعات مؤتمرات، بقدر ما صنعتها واقعيًا مساحة التسامح عند البحرينيين انفسهم. وعززتها نهج القيادة البحرينية التي تؤمن بتعزيز الفكر السلمي، وهو ما تدافع عنه فعليًا «الفاتيكان» عبر تأثيرها الروحي الكبير في العالم. لذلك نحن امام زيارة تاريخية لشخصية قيادية ودينية عرف عنها العالم التواضع والبساطة، الى بلد بات يعرفه العالم بتسامحه وتنوعه وشجاعة قائده، وليتمجد اسم الرب في بحرين التسامح.