تؤشر العودة الروسية السريعة إلى اتفاق تصدير الحبوب من أوكرانيا عبر البحر الأسود إلى فاعلية دبلوماسية تتحرك ببطء وسط نيران الأزمة. ومثلما قد يؤخذ هذا الموقف على أنه مرونة من موسكو، لا يبدو أن كييف وداعميها الغربيين في وضع مريح بسبب الاستنزاف الكبير للموارد المالية والعسكرية التي لم تحقق شيئاً عملياً على الأرض يمكن الاعتداد به واستثماره سياسياً.

عودة موسكو إلى الاتفاق نقطة تحسب لصالحها في هذا الظرف العالمي، وجاءت بعد يوم من تأكيد الرئيس فلاديمير بوتين عن استعداد بلاده لتزويد دول إفريقيا بالحبوب والأسمدة مجاناً، وذلك بعدما أكد سابقاً أن النسبة الكبرى من صادرات الحبوب لا تتجه إلى البلدان الفقيرة، بل إلى الدول الأوروبية الغنية، في الوقت الذي تولول فيه الأصوات الغربية خوفاً من مجاعة عالمية، وتتهم موسكو باستخدام القمح سلاحاً في هذا الصراع الذي بات يستخدم محتلف الأدوات. ومع طول المدى، أصبح الضحايا بالملايين في أوكرانيا وغيرها من البلدان الأخرى. ومع دخول الشتاء سيمتد الألم إلى الشعوب الأوروبية التي تتخوف من ظروف قاسية، بينما حكوماتها مازالت مصممة على هزيمة روسيا، وتبذل في سبيل ذلك كل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة، بدليل ما كشفته فضيحة هاتف رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز تراس حول تفجير شبكة «نوردستريم». وليس ذلك فحسب، بل ستكشف الفترة المقبلة كثيراً من الحقائق والأسرار التي تتصل بهذه الأزمة التي يتأكد يوماً بعد يوم أن عنوانها ومضامينها شيء آخر.

عندما تبلغ الصراعات حالة الإنهاك تبدأ في البحث عن سبل الخلاص. وبما أن روسيا عادت إلى اتفاق تصدير الحبوب، مع الأمم المتحدة وتركيا وأوكرانيا، فيمكن أن تؤخذ هذه العودة على أنها بعض النوايا الحسنة التي يبنى عليها. وتتزامن مع النداءات المتعالية في أوروبا والولايات المتحدة المطالبة بالبحث عن حل سلمي، ومن ذلك الرسالة التي وجهها 30 سيناتوراً من الحزب الديمقراطي الأمريكي، ودعوا فيها إلى تسوية الأزمة في أوكرانيا بالتفاوض مع روسيا، فيما بدأت تتعالى الانتقادات الداخلية لصرف إدارة جو بايدن عشرات مليارات الدولارات في تسليح كييف دون أن تحقق أهدافها في النصر المأمول.
أما في أوروبا، فالوضع يزداد سوءاً، كما أن خزائن الجيوش الأوروبية استنفدت مخصصات المساعدات العسكرية للحليف الأوكراني، بل إن بعض الدول باتت تفكر بتغيير سياسة الدعم والبحث عن طرق أقل تكلفة وأهمها الدفع باتجاه المفاوضات. وهذه إيطاليا، التي تسلمت رئاسة حكومتها اليمينية جورجيا ميلوني، قررت تجميد إرسال حزمة مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا بسبب «شهية كييف المفتوحة»، بحسب ما وصفت «الماساجيرو»، إحدى صحف روما العريقة.
أما فرنسا فمازالت من أكبر الدعاة إلى المفاوضات، رغم عدم تباينها كثيراً عن الخط الغربي المتشدد، بينما تريد ألمانيا أن تحاول في الدفع بوسيط وازن، وهو ما يفكر به المستشار أولاف شولتس ليعرضه على الرئيس الصيني شي جين بينغ عندما يزور بكين لاحقاً. وكل هذه المعطيات يمكن أن تفتح مسارات للحل السلمي، ويتواضع الجميع أمام شدة الأزمة، ويخضعوا، طوعاً أو كرهاً للمفاوضات.