تحت شعار «عالمية السلم» في مواجهة حروب العولمة، انعقد منتدى أبوظبي للسلم الأسبوع الماضي برعاية كريمة متجددة من سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي، وإشراف معالي العلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي رئيس المنتدى، وبحضور عدد كبير من المفكرين ورجال الدين والسياسة والرأي من مختلف القارات والدول.

لقد أثبت هذا المنتدى في دورته التاسعة أنه أصبح بالفعل ملتقى فكرياً واسعاً يحتضن كل مظاهر التنوع الثقافي والحضاري في العالَم، من منطلق قيم السلم والتسامح والتضامن الإنساني.

وعندما ظهر المنتدى في أبوظبي قبل تسع سنوات كان عالَمنا العربي الإسلامي يشهد مرحلةً خطيرةً من انهيار الدولة الوطنية وتفكك المجتمع السياسي وانفجار حركات التطرف والغلو، وكانت علاقة المسلمين بباقي أتباع الديانات الأخرى في أسوأ لحظاتها. ولا شك في أن الحاجة غدت يومئذ ماسة إلى حركية أفكار جديدة بديلة عن موجة الراديكالية الأيديولوجية التي كانت في أوجها.

ومن هنا بلور المنتدى، بدفع من رئيسه الشيخ عبدالله بن بيه، المقاربات التصورية المؤصلة لقيم المواطنة والتعددية والتسامح، كما سعى إلى إطلاق مبادرات ناجحة وفاعلة للتعاون والتحاور مع المؤسسات الدينية الكبرى في العالم. ولا خلاف اليوم على أن المنتدى نجح في وضع مدونة فكرية متكاملة تستوعب كل مفردات ومعاني السلم، في دوائره المختلفة من السلم الأهلي إلى التسامح العقدي والفكري انتهاءً بالسلام الدولي والتضامن الإنساني الأرحب.

ولقد عُني المنتدى في دورته الأخيرة بالبحث في العلاقات العضوية الضرورية بين مفهومي التضامن والسلم العالمي. ولقد بدا لي أن الفلسفات المعاصرة أهملت مفهوم التضامن الإنساني الذي هو ركيزة السلم العالمي، وقلصته إما إلى دلالة الهوية المدنية المشتركة القائمة على التعاقد النفعي أو إلى دلالة العلاقات السيادية غير العدوانية بين الدول. وفي هذا السياق تتعين الإشارة إلى ما لاحظه الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي من كون التضامن يتأسس ضرورةً على ما أطلق عليه «المركزية الثقافية الذاتية».

ما يعنيه هذا المفهوم هو أنه لا أحد بإمكانه الانفكاك من أفقه الثقافي والقيمي، بل إن المعنى الحقيقي للحرية يكمن في الحقوق التأويلية المترتبة على هذا التموقع المعياري والرمزي الذي هو الشرط الحاسم للحوار بين مجتمعات متعددة ثقافياً وقيمياً. والتضامن هنا ليس حالةَ إجماع تعسفي وهمي من خلال فرض التقويمات المعيارية باسم الحقيقة الموضوعية والتقدم التاريخي، بل هو حصيلة كونية متقاسَمة تُبنى على أساس الحوار والتفاعل مع مراعاة الاختلاف الجذري الذي لا سبيل لإلغائه.

إن هذا المفهوم التأويلي التداولي للتضامن هو شرط بناء السلم العالمي، لكونه يقر بحتمية الاختلاف والتغاير واستحالة الإجماع القهري أو التعسفي. وكما هو معروف، فقد تزامنت مشكلةُ السلم الأزلي مع مشكلة التضامن الكوني عبر سؤال الانتقال من حالة العنف وحرب الكل ضد الكل الملازمة للحرية الأصلية (هوبز وكانط وروسو)، إلا أن فلاسفة التنوير الأوروبي اتجهوا في حل هذا الإشكال إما إلى التنازل الطوعي عن الحرية بحثاً عن السلم المدني (هوبز) أو الترجمة القانونية المستحيلة للإرادة الذاتية في الإرادة المشتركة التي هي وهم لا يمكن تجسيده عملياً كما اعترف روسو ذاتُه. لقد انطلق إذاً فلاسفةُ التنوير من مأزق الاختيار بين الحرية والسلم، معتبرين أن حالة السلم ليست هي الوضعية الطبيعية للإنسان، بل إن الحرية لا تدرك إلا بمعانيها السلبية، أي إرادة النفي والاستقلالية التي لا يمكن أن تتحقق في أي بناء اجتماعي تضامني طبيعي.

ولذا عندما طرحوا خيار السلم الأزلي (دي سان بيار، كانط، لايبنتز.. إلخ) فإنهم لم يستطيعوا تصوره خارج حق الضيافة الكونية من منظور إنساني عام. وهكذا ظل مفهوم «المواطنية الكونية» الذي تحدث عنه كانط محصوراً في حق الزيارة المتبادلة بين البشر وفي مسلّمة التعامل غير العدواني مع الآخر. لقد انتهى الفكر الفلسفي والاجتماعي المعاصر إلى حصر التضامن في المفهوم القانوني الأدنى دون استكشاف الآفاق التأويلية الرحبة لهذا المفهوم في أبعاده الإنسانية الكثيفة.

ما يظهر لنا هو أن التضامن بمفهومه التأويلي لا يلغي الحريةَ بحثاً عن السلم ولا يحول «الدولة» إلى وحش قانوني تقني ومحايد تجسيداً للعدالة، وإنما يكرس فكرة التسامح والتعددية التي تعني قبول الآخر والتعايش معه من حيث هو مختلف ومغاير، ومن ثم يكون السلم هو الوجه الآخر للتضامن بمفهومه الإنساني الكوني.