ستشهد الأيام الأولى من ديسمبر (كانون الأول) المقبل حدثين مهمين. الأول بداية تطبيق الاتحاد الأوروبي حظر واردات النفط الخام الروسي ابتداء من الخامس من ديسبمر، والثاني بداية سحب 15 مليون برميل من المخزون الاستراتيجي الأميركي، التي أعلنتها إدارة الرئيس جو بايدن في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
كما أن دول "أوبك+" ستجتمع يوم الرابع من ديسمبر لتقرر مستوى الحصص الإنتاجية للفترة المقبلة ابتداء من بداية العام. وكانت أسعار النفط قد انخفضت بأكثر من خمسة دولارات وقت كتابة هذه المقالة، إذ وصل خام برنت إلى 82.54 دولار للبرميل، وذلك بعد نشر "وول ستريت جورنال" إشاعة مفادها بأن دول "أوبك" تدرس احتمال زيادة الإنتاج بمقدار 500 ألف برميل يومياً بدلاً من خفضه. إلا أن النفي الرسمي السعودي قلص الخسائر بشكل كبير.
هناك رأيان في دوائر الأسواق النفطية، الأول يرى أن أسعار النفط سترتفع، والثاني يرى أنها قد تنخفض، أو على الأقل لن ترتفع. وهنا نذكّر القارئ بأن عدداً من البنوك والمحللين توقعوا أن يصل متوسط أسعار خام برنت إلى أكثر من 120 دولاراً للبرميل في الوقت الحالي، وكما نرى اليوم، وقت كتابة هذه المقالة، الأسعار ما زالت منخفضة نسبياً.
مسوغات من يرى ارتفاع أسعار النفط
1- انتهاء السحب من المخزون الاستراتيجي الأميركي مع نهاية العام. فقد كان من الواضح في الأشهر الماضية أن السحب الكبير من المخزون الاستراتيجي أسهم في خفض أسعار النفط، ولهذا فإن وقف السحب سيؤدي حتماً إلى ارتفاع الأسعار. كما أن إدارة بايدن تفكّر حالياً في إعادة ملء المخزون عن طريق شراء العقود في الأسواق المستقبلية وبسعر محدد، وهذا بدوره يدعم أسعار النفط.
2- حظر الاتحاد الأوروبي واردات النفط الخام من روسيا ابتداء من الخامس من ديسمبر. بما أن روسيا لا تستطيع تحويل كل الكميات التي كانت تبيعها إلى أسواق أخرى، فإن هذا يعني انخفاض صادرات روسيا، ثم انخفاض الإمدادات العالمية، ومن ثم ارتفاع أسعار النفط.
3- انفتاح الاقتصاد الصيني، الذي سيؤدي إلى ارتفاع الطلب على النفط. انفتاح الاقتصاد الصيني يعني زيادة الأنشطة الاقتصادية، ومن ثم زيادة الطلب على النفط، وهذا يرفع أسعاره.
4- عدم وجود طاقة إنتاجية فائضة في دول "أوبك". يرى هؤلاء أن هناك مبالغة في الطاقة الإنتاجية الفائضة، وأن ما تبقى هو كمية بسيطة لا تكفي لتغطية أية حال طوارئ، أو أية زيادة كبيرة في الطلب على النفط. ومن ثم فإن إنتاج الصين وزيادة الطلب العالمي على النفط، يعني ارتفاع أسعار النفط لعدم وجود معروض كاف لهذه الزيادة.
5- العجز في إمدادات الديزل في أوروبا والولايات المتحدة. هذا العجز وارتفاع هامش ربح المصافي لإنتاج الديزل، يعني زيادة طلب المصافي على النفط، ومن ثم ارتفاع أسعار النفط.
6- وصول سعر صرف الدولار الأميركي إلى أوجه. أسهم ارتفاع سعر صرف الدولار في مقابل العملات الأخرى في الضغط على أسعار النفط، وذلك لأن النفط يسعّر بالدولار، ومن ثم فإن ارتفاع سعر صرف الدولار يعني بالضرورة ارتفاع أسعار النفط بالعملات التي تنخفض قيمتها في مقابل الدولار. ارتفاع تكاليف استيراد النفط يؤدي إلى خفض الطلب عليه، ومن ثم خفض أسعاره. لكن إذا بدأ الدولار بالانخفاض، فإن العكس يحصل: تبدأ تكاليف النفط بالانخفاض، الأمر الذي يسهم في زيادة الطلب عليه، ومن ثم ارتفاع أسعار النفط.
7- خفض "أوبك +" للإنتاج كلما لزم الأمر. دول "أوبك" تحتاج إلى أسعار عالية لتمويل موازناتها، ومن ثم فإنها ستخفض الإنتاج للحفاظ على أسعار النفط فوق حد معين.
8- المواقف السياسية ستمنع "أوبك +" من ترك أسعار النفط تنخفض. أسعار النفط العالية تدعم اقتصادات دول "أوبك +" اقتصادياً وسياسياً، كما أنها تحافظ على وحدة "أوبك +". والأدلة التاريخية تشير إلى عدم انصياع دول "أوبك" للضغوط السياسية، بخاصة من إدارة بايدن، ولا يمكن، بكل بساطة، أن يتم تغيير الاتجاه، لا سيما أن تغيير الاتجاه سيفسّر على أنه انصياع لإدارة بايدن.
مسوغات من يرى عدم ارتفاع أسعار النفط (يتضمن من يرى انخفاضها).
1- احتمال حدوث ركود اقتصادي في أغلب الدول المستهلكة ما زال كبيراً. فأغلب التوقعات تشير إلى احتمال حدوث ركود اقتصادي لأسباب متعددة، أهمها الرفع المستمر لأسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية، والتضخم الذي خفض معدلات الاستثمار والاستهلاك الحقيقية. هذا يعني انخفاض أسعار النفط، وأي خفض للإنتاج من قبل دول "أوبك +" سيكون هدفه العودة بالأسعار إلى ما فوق 90 دولاراً للبرميل.
2- انتهاء سحب 180 مليون برميل التي أقرها بايدن لا يعني انتهاء السحب من المخزون. فما زال المخزون يحتوي على كميات كبيرة من النفط تكفي لضخ مليون برميل يومياً ولمدة عام كامل (إن كان هناك مشكلة في نوعية النفط المتبقي). وعلينا أن لا ننسى القانون الذي أقره الكونغرس، الذي يقضي ببيع كميات من المخزون لم يتم بيعها بعد.
3- الحظر الأوروبي لا يعني بالضرورة انخفاض الصادرات الروسية، إنما إعادة توجيهها لدول أخرى أو مزجها مع نفط دول أخرى، وتصديرها للاتحاد الأوروبي تحت شهادة منشأ جديدة. كما أن عملية التبادل النفطي مع دول "أوبك +" الأخرى يعني عدم انخفاض صادرات النفط الروسي، وإنما إعادة توجيهها.
4- "أوبك" ما زال لديها طاقة إنتاجية فائضة، لكنها "ثمينة"، لذلك فهي ستستخدمها إذا لزم الأمر. كما أن هناك عديداً من المشاريع الجديدة أو مشاريع التوسعة خارج دول "أوبك" ستبدأ الإنتاج في 2023. بعبارة أخرى، من غير المنطقي التركيز على الطاقة الإنتاجية الفائضة في دول "أوبك" وتجاهل المشاريع الجديدة خارج دول "أوبك".
5- العجز في إمدادات الديزل سببه المصافي وليس إمدادات النفط الخام، وأية زيادة في إنتاج الديزل ستكون جزئياً على حساب المواد الأخرى. كما أن العجز إقليمي وليس عاماً. ففي الولايات المتحدة، العجز فقط في منطقة الشمال الشرقي. والأزمة بدأت بالتحلحل نتيجة أمرين، ارتفاع سعار الديزل خفض الطلب عليه، بخاصة النوع المستخدم كوقود في التدفئة. كما أن دولاً أخرى، لا سيما الصين، استفادت من الوضع، وقامت بتصدير شحنات ديزل إلى الدول التي تحتاج إليه. المثير في الأمر أن جزءاً كبيراً من هذا الديزل يستورد على أنه صيني، لكن في أصله نفطاً روسياً!
6- ارتفاع سعر صرف الدولار لعب دوراً كبيراً في خفض نمو الطلب على النفط. وما زال هناك مجال لارتفاع الدولار مع الاستمرار في رفع أسعار الفائدة الأميركية، لكن حتى لو انخفض قليلاً، فإن هذا الانخفاض غير كاف لتعديل الآثار السلبية في أسعار النفط. كما أن عملات دول عدة ستظل ضعيفة على كل الحالات، ومن ثم فإن انخفاض سعر صرف الدولار لن يلعب دوراً كبيراً في رفع أسعار النفط.
7- خفض "أوبك" للإنتاج قد يعيد أسعار النفط فوق 90 دولاراً للبرميل، لكن لن يعيدها فوق 100 دولار. رفع الأسعار بشكل كبير، بخاصة في ضوء احتمال حدوث ركود اقتصادي، ليس في صالح دول "أوبك".
8- المواقف السياسية تمنع دول "أوبك" من القيام بتخفيضات كبيرة ورفع أسعار النفط بشكل كبير.
الخلاصة، في رأيي، حجج من يرى عدم ارتفاع أسعار النفط أقوى من حجج من يرى أن أسعار النفط سترتفع. من هذا المنطلق، يُتوقع أن تقوم "أوبك" في اجتماعها خلال ديسمبر المقبل، إما بالاستمرار بالخفض الحالي أو تعميق الخفض.
التعليقات