كثير من التحديات التي تواجهها دول العالم اليوم بمختلف مستوياتها هي في كيفية إجراء التغيير والتحول المتسارع في كثير من المجالات، كالتحول الرقمي والتقني وتكنولوجيا المعلومات والتغيير البيئي، وغير ذلك من تلك التحديات التي لها تأثير كبير وبشكل فاعل في اقتصادات هذه الدول ومجتمعاتها وقواها الدفاعية والعسكرية. ولعل كثيرا من هذه الدول وجد أن من الحلول الناجعة لهذه التحديات هو القدرة على التنويع والاستدامة الذي يلعب الابتكار دورا كبيرا في ذلك، والمطلع على بنود رؤية المملكة 2030 يجد أن السعودية تعمل على بناء اقتصاد تنافسي مبني على البحث والتطوير والابتكار، ولذا سيكون محور حديث مقال اليوم عن التعريف بدور الابتكار في بناء اقتصاد قوي متنوع ومستدام، نستطيع من خلاله الاستفادة من تحقيق الريادة والمنافسة.

حينما نبحث في عالم الريادة والمنافسة والاستدامة، وفي عمليات التطوير لأي قطاع كان، سواء كان في مجال الصناعات على مختلف أنواعها ونطاقاتها أو على مستوى الطاقة بمختلف أشكالها أو القطاع الدفاعي والأمني والمجتمعي بمختلف تلك الصور لذلك، سواء كان على مستوى الدول أو المجتمعات أو الأفراد، نجد أن الابتكار يشكل أهمية كبيرة وضرورة قصوى لا غنى عنها في تحقيق ذلك. ولذا نجد أن كثيرا من الدول المتقدمة والنامية أدركت أن قوتها الاقتصادية والدفاعية والاجتماعية مبنية على مدى تقدمها وتطورها المبني على الابتكار عموما، فأصبحت تنفق في هذا المجال كثيرا من الميزانيات وتخصص له كثيرا من المبادرات والبرامج، بل أصبح كثير من حكومات بعض الدول تتنافس ،كما ذكرت في مقالات سابقة، في تحقيق الريادة والأسبقية من خلال رسم ووضع خططها الاستراتيجية بأهداف واضحة مبنية على احتياجات فعلية لذلك، ومن خلال استثمارها في مجال الابتكارات النوعية الفاعلة وإشراك القطاع الخاص في عمليات التمويل والدعم، فعن طريق ذلك تحول كثير من تلك الابتكارات والأفكار إلى مشاريع استثمارية تجارية حقيقة.

إن العلاقة الرياضية بين البحث والتطوير والابتكار والإبداع والإنتاجية لأي قطاع من الناحية الاقتصادية، على سبيل المثال، هي علاقة طردية، أي أنه كلما زادت الأنشطة البحثية التطويرية الابتكارية النوعية التقنية والتكنولوجية، زادت الانتاجية، وبالتالي تحققت التنافسية، وتحقق النمو الاقتصادي المستدام. ونجح كثير من تلك الدول، على سبيل المثال، الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان وكوريا الجنوبية، وبعض دول جنوب شرق آسيا وغيرها، في فهم هذه العلاقة، وعلمت أن الاقتصاد المبني على المعرفة المتطورة المعتمدة على "الابتكار" هو من يلعب دورا حقيقيا بارزا وأساسيا في تحقيق اقتصاد تنافسي مستدام، ولا شك أن ذلك يكون من خلال تطبيق وفهم العلاقة التبادلية بين الابتكار وقدرة العنصر البشري، في استغلال الموارد والأدوات، والتعليم والتعلم، ولديه المعرفة والقدرة والقابلية على البحث والتطوير والإبداع والابتكار، واستشراف المستقبل.

وكما ذكرنا، فإن المطلع على بنود رؤية 2030 يجد أن المملكة تعمل على بناء اقتصاد تنافسي مستدام مبني على البحث والتطوير والابتكار، وتبذل جهودا كبيرة وملموسة في ذلك، وأدركت أن العامل البشري هو العامل الأساس في نجاح ذلك، ولذلك أولت القطاعات المعينة من الهيئات والمراكز البحثية والجامعات وغيرها كثيرا من الاهتمام، وأصبحت هناك ميزانيات ضخمة خصصت لهذا الهدف، وما يدل على ذلك ما أولته الدولة لقطاع التعليم من الاهتمام الكبير، حيث لا تزال تعد ميزانية المملكة للتعليم هي الأضخم، حيث بلغت 185 مليار ريال لـ2022 خصصت فقط للتعليم بما يشمله ذلك من البحث والتطوير والابتكار والإبداع ومبادرات لدعم الباحثين والعلماء في الجامعات، لتطوير أبحاثهم واختراعاتهم ونماذجهم الصناعية إلى ابتكارات نوعية بمختلف أنواعها وتحويلها إلى منتجات صناعية ذات قيمة تجارية، ولعل ما تم إعلانه أخيرا، في مؤتمر الشراكات المستدامة، من أن هناك استراتيجية جديدة لمنظومة البحث والتطوير ستطلق قريبا، وأن هناك ميزانية خاصة بالبحث والتطوير في جميع الجهات الحكومية. كل ذلك يؤكد حرص حكومتنا الرشيدة على المضي قدما في هذا المجال، وأن من أولوياتها تحقيق اقتصاد ريادي مستدام مبني على الابتكار، ومن المبشرات في ذلك أنه أصبح لدينا أربع جامعات سعودية ضمن أفضل 100 جامعة في تسجيل براءات الاختراع على مستوى العالم في مكتب البراءات الأمريكي، وغيرها كثير، حيث سجلت قوائم الهيئة الملكية الفكرية السعودية نحو 4990 طلب إيداع لاختراعات وأكثر من 1300 نموذج صناعي فقط لـ2022. وأرى أن من المناسب أن تكون هناك خطة استراتيجية موحدة لذلك تشتمل على التحديات والاحتياجات الفعلية القائمة سواء كانت هذه التحديات أو الاحتياجات محلية أو دولية في جميع القطاعات سواء كانت المدنية منها أو الدفاعية، وأن يتم توجيه جميع الأبحاث والاختراعات لهذه الخطة المحدثة بشكل دوري، وأن يتم تبني تحديد ومتابعة هذه الاحتياجات بالتنسيق والمتابعة مع إحدى الجهات المعنية من الهيئات أو غيرها وتضمينها وفهرستها في منصة وطنية موحدة. كما ذكرت ذلك في مقالات سابقة، بحيث يتم إدراجها ضمن الخطط الاستراتيجية لكل قطاع وجامعة ومركز بحثي أو ابتكاري، بذلك يسهل التنسيق والمتابعة، ما سيكون له الاثر الكبير في توفير الجهود والتكاليف وتحقيق اقتصاد متين ومستدام مبني على الابتكار.