من أهم الأسئلة التي دائماً ما يسألها الناس عندما يجمعهم لقاء أو محاضرة مع عالم آثار هي: هل لا تزال هناك آثار دفينة لم يكشف عنها بعد؟ هذا السؤال يوجه دائماً لعلماء الآثار في كل مكان بالعالم وبأكثر من صيغة مختلفة، فربما يسأل البعض عن النسبة المئوية للآثار التي لم تكتشف بعد بالنسبة إلى تلك المكتشفة والمعروفة؟ كذلك يسأل المهتمون بالكشف عن الكنوز عما إذا كانت هناك كنوز نعلم بوجودها ولم نجدها أو نعثر عليها بعد؟ وفي الحقيقة ومن خلال رحلاتي ومحاضراتي حول العالم دائماً ما أؤكد أن علم الآثار هو من أحدث العلوم المستحدثة وعمره لم يتجاوز القرنين من الزمان. ورغم نشاط البعثات الأثرية منذ القرن الماضي خاصة في مجال البحث الأثري عن الحضارات القديمة فإن علم الآثار لم يكتب إلى يومنا هذا سوى الصفحات الأولى فقط من تاريخ وحضارة الإنسان على الأرض، التي لا نعلم على وجه اليقين متى بدأت تحديداً؟ وأين؟
تضم محافظة العلا بالمملكة العربية السعودية الكثير من المناطق الأثرية المهمة التي تعود إلى حقب زمنية مختلفة وهناك مواقع وآثار يعرفها الأثريون جيداً ومسجلة ضمن السجل الوطني للآثار التابع لهيئة التراث ولكن لم يتم الكشف عنها وسبر أسرارها بعد. ذلك رغم ضخامتها التي تفوق حد الخيال أحياناً ومثال على ذلك هو سر تلك المجموعات المعمارية المستطيلة التي تقع على مساحة ضخمة تقارب الـ200 ألف متر مربع! وقد تم إحصاء ما يزيد على ألف من تلك البناءات المستطيلة الشكل والمطمورة في الرمال ويظهر تخطيطها واضحاً بالتصوير الجوي أو من خلال المسح الأرضي كذلك. ورغم ضخامة تلك الآثار وكثرة عددها وتشابهها في التخطيط الذي يدل على وحدة الوظيفة التي كانت تؤديها فإن المعلومات لا تزال شحيحة للغاية ولا تتناسب مع ضخامة ما نتحدث عنه من عمارة قديمة تدل على نشاط إنساني مبهر بالمنطقة.
كان من أواخر الدراسات والأبحاث الميدانية التي تم نشرها عن سر هذه المستطيلات هو ما تم بواسطة بعثة علمية سعودية مشتركة مع فريق من جامعة غرب أستراليا، التي قامت بأعمال المسح الجوي وعمل حفائر تجريبية في عدد من هذه المستطيلات. وما تم الكشف عنه من معلومات يدعونا إلى الاستعداد إلى الكثير من الاكتشافات المستقبلية بهذه المواقع الكبيرة.
كشفت البعثة العلمية عن وجود حجرات على الأقل حجرة واحدة بكل بناء مستطيل كانت تستخدم في الأغراض الدينية مثل تقديم الأضاحي والقرابين الحيوانية وكان ذلك واضحاً بعد العثور على قرون حيوانات وعظام وأسنان كلها لحيوانات كانت تقدم كقرابين خلال طقوس ومعتقدات دينية معينة. وبالطبع كان الكشف عن البقايا الحيوانية مهماً للغاية بالنسبة للباحثين الذين تمكنوا من خلال تحليل كربون 14 المشع تحديد العمر الزمني الذي مر على تلك الحيوانات، وبالتالي تأريخ البنايات المستطيلة. وكانت المفاجأة التي أكدها الباحثون وهي أن تلك البنايات تعود إلى العصر الحجري القديم، وأن عمرها يتجاوز سبعة آلاف سنة، وبمعنى آخر فإن تلك الآثار هي أقدم عمراً من الأهرامات المصرية.
هذا مجرد مثال واحد، رداً على السؤال عن حجم الآثار المكتشفة إلى حجم غير المكتشفة، ولكن من المهم أن يعلم الناس أن الأثريين لا يسعون مطلقاً إلى كشف كل ما يقع تحت أيديهم، رغم إثارة الكشف ومتعة المعرفة، فهناك مواقع وآثار من الأفضل تركها للأجيال القادمة من الأثريين، حيث سيكون لديهم التقنيات والتكنولوجيا الأحدث من تلك التي نملكها. وبالتالي نضمن أن يكون الحفاظ على تلك المواقع والآثار أفضل. كذلك نضمن استمرارية علم الآثار المدهش، وأن الأجيال القادمة سيكون لها أيضاً نصيب من متعة الاكتشاف والمعرفة.