مَن وجد بوصلته الاستراتيجية، مَن أضاعها، ومَن يلاحق إبرتها لتستقرّ على ما يريده؟ السؤال ليس مطروحاً في شأن دول العالم كلها، وإنما يتعلق بالدول والمجموعات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط والخليج وعلاقاتها مع الدول الرئيسية في العالم كالولايات المتحدة والصين، وكذلك مع روسيا. دول مجلس التعاون الخليجي، السعودية والإمارات وقطر والكويت وعُمان والبحرين، وجدت بوصلتها الاستراتيجية ببراعة وهي تتموضع اقليمياً ودولياً بثقة وبثبات. الجمهورية الإسلامية الإيرانية أضاعت بوصلتها الاستراتيجية بعدما فقدت توازنها أمام نتائج زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ الى الرياض والبيانات الختامية للقمم الثلاث، الثنائية مع السعودية والخليجية والعربية، كما بسبب انجرارها الى الحرب الأوكرانية بتحالف مع روسيا وعداء لأوروبا، إضافة الى تخبّط النظام أمام التظاهرات ضده ولجوئه الى القمع والإعدام وقتل الفتيات. أما تركيا، فإنها تتسلّق الحبال الاستراتيجية ضمن حلف الناتو الذي تنتمي اليه، وفي مبادرات صفقة صادرات الحبوب الأوكرانية برعاية تركية ناجحة، ومع روسيا في سوريا، وفي إطار مشاريع روسية - تركية لإنشاء مركز للغاز الطبيعي وتحديد أسعاره.

مجلس التعاون الخليحي، بقيادة الأمين العام القدير نايف الحجرف، يعكف على تنفيذ رؤية الدول الست الأعضاء في المجلس ببراغماتية، في أداء مميّز، وباقتناص لامع للفرصة الاستراتيجية المتاحة. هذه الفرصة أتت بموجب قرارات حكيمة اتخذتها الدول الخليجية ورسمت لها خريطة طريق بحيث لا تنحرف عن علاقاتها المتينة والتقليدية مع الغرب، خصوصاً العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة، ولا تخشى استكشاف آفاق علاقات جديدة مع الشرق خصوصاً مع الصين، التجارية منها والاستراتيجية. (راجع مقال الأسبوع الماضي بتاريخ 11 كانون الأول/ ديسمبر 2022).

البيانات الختامية للقمم الثلاث التي صدرت صدَمت الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا سيّما لِما انطوت عليه من مواقف للصين لم تكن أبداً في بال طهران ما أدّى بالبعض الى اتهام النظام بـ"العمى الإيديولوجي" الذي منع رجال النظام من قراءة الصين بواقعية، ابتداءً من مواقف الصين من البرنامج النووي الإيراني، مروراً بمواقفها من الأنشطة الإقليمية الإيرانية، وانتهاء بقضية الجزر الثلاث الإماراتية التي تحتلها إيران، أتت الصفعة الصينية موجِعة جدّاً للنظام في طهران.

فطهران كانت عقدت العزم على اتفاقية التعاون الاستراتيجي الشاملة مع بكين -أمنياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً- رأى النظام فيها شبكة إنقاذ وخلاص له من العقوبات الأميركية كما اعتبرها أداة حادة في أياديه لتموضعه اقليمياً وأمام الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

قمم شي جينبينغ في الرياض سكبت الماء البارد على استراتيجية التوجّه شرقاً الإيرانية والتي افترضت أن الصين ستقف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في كل المحطات، النووية والإقليمية، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. البعض في طهران اعتبر نتيجة القِمم أنها رسالة تهميش لإيران، واضحة وعازمة- هناك من تخوّف من انهيار الرهانات الاقتصادية على الصين معتبراً أن ما حصل هو انحراف خطير عن الصفقة الاستراتيجية الشاملة الموقَعة بهدف استمرارها لمدة 25 سنة.

الصين فاجأت إيران خليجياً بعدولها عملياً عن تحالف استراتيجي بين البلدين، عِلماً أن دول مجلس التعاون الخليجي حصلت على كل ما تريده من الصين. طهران فقدت بوصلتها الاستراتيجية مع الصين وباتت تخشى من تداعيات ما تعتبره "عزوف" الصين عن تطبيق المعاهدة الاستراتيجية.

روسيا أيضاً ساهمت في ارتباك إيران الاستراتيجي لأن طهران اضطرت لخوض حربٍ لم تكن تخطط لها في أوكرانيا وضد دول حلف شمال الأطلسي "ناتو". انجرار إيران الى الشراكة الميدانية مع روسيا في حربها على أوكرانيا سيكلفها أوروبا- بمعنى خسارة رهان طهران الدائم على الدول الأوروبية في المفاوضات الرامية الى إحياء الاتفاق النووي والذي بموجبه يُفترض رفع العقوبات عن إيران.

بل إن أوروبا اليوم تفرض العقوبات على إيران بسبب انخراطها في الحرب الأوكرانية وتزويدها المسيّرات الحربية المتطورة الى روسيا والتي تفتك بالمدنيين في أوكرانيا. أوروبا مستاءة وغاضبة، وإيران كذلك مستاءة وغاضبة- كلاهما من بعضهما البعض. اهتزّت البوصلة الأوروبية - الإيرانية اهتزازاً ضخماً. إلا أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا ترى أمامها سوى خيار التحالف مع روسيا ميدانياً في أوكرانيا كما في سوريا.

لماذا؟ الصفقات العسكرية بين روسيا وإيران بمليارات الدولارات هي من الأسباب الرئيسية. ثم إن المسيّرات الإيرانية تعتبر الخيار الأفضل لشن الهجمات وروسيا ماضية بشرائها من طهران. الصفقات الروسية - الإيرانية متعدّدة النوعية ومصالحهما المشتركة ضخمة تمتد من بحر قزوين الى أرمينيا. ثم هناك مسألة فائقة الأهمية وهي المسألة النووية.

إذا تأزمت الأمور أكثر فأكثر لكل من روسيا وإيران مع الولايات المتحدة والدول الغربية، ليس مستبعداً أبداً أن تقدّم موسكو الى طهران ما تحتاجه لاستكمال برامجها النووية والحصول على القنبلة الذرية.

إقليمياً، تبقى روسيا ممراً مهماً لإيران، وتبقى تركيا موضع قلق لكلاهما بالذات في الساحة السورية. ثم هناك إسرائيل التي تُقلِق إيران كثيراً وتُتعِب روسيا قليلاً. الساحة السورية مرشّحة للتصعيد الخطير بين إيران وإسرائيل وليس فقط بين تركيا وإيران. فإذا قرّرت طهران المغامرة حقاً -وليس مجرّد المخادعة bluff- بأنها ستوجّه ضربات استباقية ضد إسرائيل، لن تقف الولايات المتحدة وأوروبا متفرِجة. فالمعادلة جديدة ما بعد الحرب الأوكرانية. وفسحة المناورة الإيرانية قد ضاقت حقاً مع الدول الأوروبية، بالرغم من أن طهران ما زالت غير مقتنعة بذلك.

وعليه، يبدو المشهد الإيراني اليوم كالتالي: الصين طوّقت إيران خليجياً، وقد تؤدّي سياساتها الى تطويق النشاطات الإيرانية في اليمن. روسيا ورّطت إيران أوروبياً، وقد يساهم ذلك في ضغوط أوروبية - أميركية مشتركة لكبح جماح إيران في العراق وسوريا ولبنان، مباشرةً وعبر دعم النشاطات الإسرائيلية بالذات في سوريا.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية طوّقت نفسها داخلياً بقمعِها الاحتجاجات وإفلاسها أمام العالم. فقد بات واضحاً أن هذه ليست ظاهرة عابرة وإنما هي أزمة خطيرة على النظام في طهران.

تركيا هدأت هذا الأسبوع تجاه سوريا بعدما كانت هدّدت بفرض حزام أمني داخل سوريا تحت عنوان حماية مصالحها القومية ومناهضة الإرهاب. أفرطت أنقرة بالتوعّد والوعيد، ثم استدركت عبر البوابة الروسية لأسباب ذات علاقة بالحرب الأوكرانية وبالغاز والانتخابات.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يبدو واثقاً جداً من نفسه لا سيّما أن الحرب الأوكرانية أعطته زخماً داخل حلف الناتو، مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وكذلك مع روسيا. أثناء المنتدى العالمي لشبكة TRT في إسطنبول الأسبوع الماضي، كان الافتخار التركي بصفقة الحبوب واضحاً وكان أردوغان واثقاً بدورٍ مميّز لتركيا إقليمياً وعالمياً، من الحبوب الى الغاز، الى دور الوسيط لحل النزاعات، الى القيمة الاستراتيجية لتركيا.

الرئيس التركي عرض على نظيره الروسي فلاديمير بوتين تأسيس آلية ثلاثية مع سوريا لتسريع المسار الدبلوماسي الذي نصّ على اجتماع بين أجهزة مخابرات الدول الثلاث أولاً، يتبعه لقاء على مستوى وزراء الدفاع ثم الخارجية، ثم قمّة على مستوى الرؤساء. بوتين تجاوب، بحسب أردوغان، علماً أن الرئيس الروسي هو من بادر الى إقناع نظيره التركي بوقف زحفه على سوريا والتحدّث مع بشار الأسد في مباحثات مباشرة.

فلاديمير بوتين يريد الانتهاء من المشهد المضطرب في سوريا وهو، شأنه شأن رجب طيب أردوغان، في حاجة الى إنجاز دبلوماسي في سوريا ينقذ ماء الوجه. كلاهما لا يثق بالولايات المتحدة وغاياتها في سوريا، وكل منهما لا يثق بالآخر تماماً وإنما يتجاوز الكراهية المتبادلة من أجل تحقيق أهدافه.

روسيا كانت اقترحت إنشاء مركز للغاز الطبيعي في تركيا للتصدير الى الأسواق الخارجية، وتركيا تبذل جهداً لتصبح مركزاً لتجارة الغاز الطبيعي معتبرة أنها السوق الوحيدة في تجارة الغاز بالمنطقة، لديها بنية تحتية و7 خطوط أنابيب دولية للغاز الطبيعي المسيّل، وبالتالي مؤهلة لتصبح مركزاً عالمياً من خلال احتضانها مشاريع دولية. هذه علاقة فائقة الأهمية لكل من تركيا وروسيا لا بد أنها أثّرت في المعادلة التركية في سوريا بأبعادها الروسية. أما في ما يخص إيران ومشاريعها في سوريا، فإن تركيا لا تثق بإيران لأن التباعد بينهما استراتيجي.

الأهم لأنقرة اليوم هو أن تجد بوصلتها الاستراتيجية الثابتة علماً أن لقيادتها تاريخاً صعباً مع كل من اللاعبين- من الولايات المتحدة الى أوروبا الى روسيا وإيران والدول العربية وإسرائيل. تركيا اليوم لاعب أساسي في الأزمة الأوكرانية وهي استفادت من ذلك دبلوماسياً كما نفطياً كما في قطاع الغاز. أحد التحديات الكبيرة للقيادة التركية يكمن في الساحة الداخلية حيث هامش الحريات يزداد ضيقاً وحيث تتحول تركيا الى دولة حكم الحزب الواحد، وبصرامة، وهذا ليس في مصلحة تركيا بالرغم من مسيرتها نحو تطبيع العلاقات مع جيرتها واعتماد المصالحة أساساً لها.

تركيا، إذن، تتبنّى التأقلم فيما تسعى وراء تثبيت بوصلتها الاستراتيجية. إيران تتعثر في إضاعة البوصلة الاستراتيجية وتزداد تمسّكاً بعقائدية فاشلة. الدول الخليجية العربية رسمت خريطة طريق طبقاً لبوصلة استراتيجية تعتزم الاسترشاد بها.