أوروبا المُتصالحة مع نفسها، والمُتسامحة مع ذاتها، والمُتعاونة فيما بينها، والمُقدمة للدروس والحِكم، والمُوجِهة لغيرها من الأمم، تَحول حالها، وتبدل مزاجها -بعد سبعة عقود- لتُصبح موطناً للاستقطابات السياسية فيما بينها، ولتكون موطناً للصراعات المُسلحة، ولتتجه دولها -الصغيرة والكبيرة- نحو سباق محموم للتسلح والتزود بما تستطيع من الأدوات الأمنية والعسكرية والحربية، إنها حالة تحول عظيمة تشهدها الساحة الأوروبية، فبعد أن كان الاقتصاد والاستثمار والصناعة والتنمية المستدامة تتصدر المشهد الأوروبي، وتقود السياسة العليا للاتحاد الأوروبي، أصبحت القضايا الأمنية والعسكرية واللوجستية تعلوا فوق غيرها من القضايا، وبعد أن كانت مِظلة الناتو الأمنية والعسكرية أساساً متيناً تعتمد عليه الدول الأوروبية المُنضمة للحِلف، توجهت الدول الأوروبية -كُل حسب طاقتها وقدرتها- نحو بناء قدراتها الأمنية والعسكرية بشكل مُتسارع لتدافع عن نُظمها السياسية، ولتحمي شعوبها وأقاليمها إن دعت الحاجة. نعم، إن أوروبا تمر بمرحلة تحول رئيسة في تاريخها السياسي والأمني والعسكري، وهذا التحول الكبير يُنذر بتغير الواقع الأوروبي من حالة السلام إلى حالة الصراع والنزاع والفوضى كما كان سائداً قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن ما الذي دعا أوروبا لأن تتحول في توجهاتها نحو القضايا السياسية والأمنية والعسكرية على حساب غيرها من القضايا والمجالات والاهتمامات المعهودة عنها خلال السبعة عقود الماضية؟

قد يكون من الصعب الجزم بشكل مُباشر بالأسباب الرئيسة التي دعت أوروبا لأن تتحول هذا التحول التاريخي في توجهاتها السياسية والأمنية والعسكرية، إلا أنه من الممكن الإشارة للسبب أو للأسباب الظاهرة التي فرضت على أوروبا هذا التحول العظيم في وقتنا الحاضر وبما يرسم ويخطط ويقود استراتيجيتها المستقبلية على المديين المتوسط والبعيد، فإذا افترضنا أن هناك سببا أو أسبابا ظاهرة دفعت أوروبا لهذا التحول التاريخي، فإن حالة الصراع الروسي الأوكراني -مُنذُ فبراير 2022م- تعتبر سبباً، أو أحد الأسباب، الرئيسة التي يمكن الإشارة إليها.

إن حالة الصراع المُسلح القائمة بين روسيا وأوكرانيا مثلت للشعوب والنُظُم والدول الأوروبية حالة عظيمة من حالات الصدمة النفسية غير المُنتظرة وغير المُتوقعة خاصة وأنها جاءت بعد حالة السَّلام التي سادت القارة الأوروبية مُنذُ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومما ضاعف حالة الصدمة النفسية، كذلك، هو أن هذا الصراع المُسلح جاء بعد النهاية السِلمِية للحرب الباردة، والتفكك السِلمِي للاتحاد السوفيتي، والتحول التدريجي المُمنهج نحو النُّظُم السياسية الديمقراطية في المُجتمعات المُستقلة عن النفود السوفيتي، فحالة الصراع المُسلح هذه، وما نتج وينتج عنها من تدمير ومآسٍ، دفعت الدول الأوروبية للتفكر والتفكير بشكل مختلف عما كانت عليه قبل فبراير 2022م.

وإذا كانت حالة الصراع المسلح الروسي الأوكراني سبباً من الأسباب، فإن حالة ووضع وطريقة الدعم والتأييد والمُساندة الغربية -خاصة الأميركية وحلف الناتو- لأوكرانيا، الدولة الحليفة للغرب، دفع الدول الأوروبية دفعاً للتفكير في مستقبلها السياسي والأمني والعسكري، لقد كان الاعتقاد السائد في المُجتمعات الأوروبية هو أن حالة الصداقة السياسية، والتقارب الحضاري والثقافي والاجتماعي، والتعاون الأمني والعسكري واللوجستي، والتحالفات العسكرية، ضامنةً لحالة الأمن والسلام والاستقرار في القارة الأوروبية تجاه أي اعتداءات داخلية أو خارجية. وهذا الاعتقاد الذي كان سائداً سقط سقوطاً فاضِحاً عندما رأت الشعوب والمجتمعات الأوروبية دولة أوكرانيا تواجه بنفسها، وبشكل انفرادي، الآلة العسكرية الروسية الضَّخمة من غير تدخل أو دعم مُباشر من الآلة العسكرية الغربية سواءً بشكل أحادي أو جماعي. نعم، لقد أُصيبت الشعوب والمجتمعات الأوروبية بحالة من حالات الإحباط، والشعور بالمهانة، وخيبة الأمل، عندما وجدت الوعود الأمنية والعسكرية والحمائية وعوداً مُجردة ونظرية وغير واقعية.

وأياً كان السبب أو الأسباب التي دفعت المُجتمعات الأوروبية للتفكير في مستقبلها الأمني والعسكري بعيداً عن التحالفات والوعود الحمائية المُباشرة المقدمة لها خاصة من الولايات المتحدة وحلف الناتو، فإن حالة التسلح المُكثف التي تحصلت عليها أوكرانيا تدفع المجتمعات الأوروبية تجاه التسلح خوفاً من أن تجد نفسها في الموقف ذاته الذي وصلت إليه أوكرانيا، إن حالة الخوف والقلق التي وصلت لها المجتمعات الأوروبية، وتدفعها دفعاً نحو سباق التسلح، لها ما يبررها على أرض الواقع، فإذا كانت حالة التعرض لاعتداء مسألة تُبرر حالة التسلح الأمني والعسكري، فإن حصول أوكرانيا نفسها على سلاح مُتطور ومُتقدم ونوعي يعزز حالة القلق والخوف لدى المجتمعات الأوروبية من أوكرانيا نفسها في المستقبل. نعم، إن أوكرانيا داخلة في صراع مسلح مع روسيا، إلا أنها في النهاية تحصل على سلاح متقدم ومتطور ونوعي أكثر احترافية وتميز مما تملكه المجتمعات الأوروبية المجاورة لها مما يجعلها تخشى من حالة اختلال التوازن بينها وبين أوكرانيا في المستقبل، إن هذه المجتمعات الأوروبية تُصاب بالخوف والقلق عندما تستمع للرئيس الأميركي وهو يقول للرئيس الأوكراني، عندما التقاه في البيت الأبيض في 22 ديسمبر 2022م، "نريد من أوكرانيا أن تستطيع الدفاع عن نفسها، ولذلك سوف نقدم لأوكرانيا بطاريات باتريوت. وكذلك سنقدم تدريبا لقواتكم لاستخدام هذه المنظومات". وهذه الخوف والقلق من تسلح أوكرانيا يتصاعد عندما تُشاهد هذه المجتمعات الأوروبية بيانات وزارة الخارجية الأميركية المتعلقة بدعم أوكرانيا، ومنها البيان المنشور باسم وزير الخارجية بلينكن، على موقع وزارة الخارجية الأميركية، بتاريخ 23 نوفمبر 2022م، المتضمن التالي: "تواصل الولايات المتحدة دعم أوكرانيا بمساعدات عسكرية إضافية لمساعدتها في الدفاع عن نفسها، بما في ذلك لمواجهة هجمات الكرملين المستمرة على البنية التحتية الحساسة الخاصة بالطاقة في أوكرانيا، أذنت اليوم بالسحب السادس والعشرين منذ أغسطس 2021 من الأسلحة والمعدات لأوكرانيا بموجب تفويض من الرئيس، ويشتمل هذا السحب على أسلحة وذخائر ومعدات دفاع جوي إضافية بقيمة 400 مليون دولار من قوائم جرد وزارة الدفاع الأميركية، ويصل بذلك إجمالي المساعدات العسكرية الأميركية إلى أوكرانيا إلى مستوى غير مسبوق يبلغ نحو 19,7 مليار دولار منذ بدء ولاية الإدارة... إن ذخيرة المدفعية والأسلحة النارية الدقيقة وصواريخ الدفاع الجوي والمركبات التكتيكية التي نقدمها ستخدم أوكرانيا بشكل أفضل في ساحة المعركة، وتنضم إلينا فرنسا والمملكة المتحدة في جهودنا، بما في ذلك عبر أنظمة الدفاع الجوي بقيمة 50 مليون جنيه إسترليني التي قدمها رئيس الوزراء البريطاني سوناك خلال زيارته الأخيرة إلى كييف، ونشير أيضاً إلى التزام السويد الأخير بالدفاع الجوي بقيمة 300 مليون دولار تقريبا".

وفي الختام من الأهمية القول إن سياسة الولايات المتحدة القائمة على مبدأ تسليح أوكرانيا بما يُحقق الاستنزاف المُمنهج للقدرات والإمكانات الروسية يؤدي بشكل غير مُباشر إلى سِباق تسلح مُكثف ومتصاعد داخل القارة الأوروبية مما يُضعِف حالة الثقة بين المجتمعات الأوروبية، ويتسبب بتراجع حالة الأمن والسلم الاستقرار الأوروبي، ويرسم مستقبلاً صعباً للقارة الأوروبية. نعم، إن مستقبل القارة الأوروبية المجهول رُسمت خطوطه العامة مُنذ أن بدأ الصراع الروسي الأوكراني، وفُصِلت خطوطه الدقيقة عندما قررت الولايات المتحدة -وحلفاؤها الغربيون الرئيسون– الاستثمار في الأزمة القائمة لزيادة المكاسب السياسية والأمنية والعسكرية واللوجستية، وتعظيم الخسائر لدى المنافسين والأعداء التقليديين.