المواقف الخطرة التي كانت حكرًا على الكواليس السياسيّة في لبنان أصبحت على المنابر، إذ سارع الجميع الى إخراج تشدّدهم في موضوع الانتخابات الرئاسيّة الى العلن.

وبعدما دعا رئيس "حزب القوات اللبنانيّة" سمير جعجع "الفريق الآخر" إلى وجوب عدم الظن بـ"أنّنا من الممكن أن نقبل بأيّ مرشح له، حتى لو قاطع انتخابات رئاسة الجمهوريّة على مدى عشر سنوات"، خرج الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله الذي يعاني من "تحسس في قصبته الصوتيّة" إلى "إفهام" كل من ينتظر المفاوضات بين أميركا وإيران حول الاتفاق النووي أو الاتفاق السعودي الإيراني بأنّ بإمكانه أن ينتظر عشرات السنوات "ونبقى من دون رئيس للجمهوريّة".

واللافت للإنتباه أنّ كلًّا من جعجع ونصرالله يفعلان ذلك من أجل مصلحة لبنان، فرئيس حزب "القوات اللبنانيّة" لن يقبل بانتخاب مرشح الفريق الآخر "لسبب بسيط أننا نرفض إطلاقاً المساهمة بأي أمر من الممكن أن يكون سيّئًا بحق البلاد"، فيما الأمين العام ل"حزب الله" يريد رئيسًا للجمهوريّة لا يطعن المقاومة في الظهر " لأنّ رئيساً لا يطعن المقاومة في الظّهر لا يأخذ البلد إلى حرب أهليّة".

بطبيعة الحال، لا جعجع ولا نصرالله يريدان إرجاء الإستحقاق الرئاسي عشرات السنوات، إذ إنّ الرجلين يحاولان، من خلال "التصعيد الزمني"، أن يحققا ما يبتغيانه من الانتخابات الرئاسيّة، ولكن هذا لا يعني أنّهما ليسا جدّيين فيما يعلنانه، فمنطلقات رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" معروفة، ومنذ سنوات، فهو بين رئيس يبني سلطة من شأنها إبقاء البلاد في الجحيم والفراغ، يختار الفراغ، وكذلك الحال بالنسبة لمنطلقات الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله الذي بين رئيس يُفقده السطوة التي له على لبنان والفراغ، يختار الفراغ.

وإذا كان نصرالله قد قدّم في الفترة الفاصلة بين انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان وانتخاب الرئيس ميشال عون الدليل العملي "الساطع" على جدّية التعطيل، فإنّ جعجع، لولا خرق رئيس "تيّار المستقبل" سعد الحريري، في العام 2016، لسياسة الإنتظار، لما كان قد وافق على صفقة مع ميشال عون ليتخلّص من "عبء" سليمان فرنجية.

وكان يمكن الخروج من المأزق الرئاسي لو أنّ أيّ طرف يملك القدرة على الحسم لمصلحته، ولكن هذا غير متوافر: على مستوى "حزب الله"، لا نيّة على إيصال رئيس للجمهوريّة -حتى لو استطاع أن يوفّر الحزب له الأكثريّة اللازمة- يمكن أن يُحسب عليه حصرًا، لأنّه لن يستطيع أن يُقدّم له ما يحتاج إليه من خدمات في الخارج، كما سوف يحمّله تبعات الكوارث التي لا بدّ من أن يحفل بها عهده الذي سيشهد مقاطعة وطنية كبيرة تضاف الى إِحجام القوى الإقليمية الأكثر تأثيرًا، عن التعامل معه، وتاليًا على تقديم ما يحتاج إليه لبنان من عون لينهض من كبوته الوجوديّة الخطرة للغاية. أمّا على مستوى حزب "القوات اللبنانيّة" فلا قدرة لديه على توفير أكثرية، ليس لانتخاب الرئيس الذي يريده فحسب، بل لعقد جلسة دستوريّة لمجلس النواب، أيضًا.

وتنقسم البلاد بين منطقَي نصرالله وجعجع، من دون أن تملك القدرة على الحسم في هذا الإتجاه أو ذاك، لأنّ لكل منطق أبعاده الإقليميّة والدوليّة، فنصرالله جزء من "محور الممانعة" الذي تقوده إيران، وتاليًا فهو، ومهما كانت النتائج والتداعيات الوطنية، يريد تكريس موقع لبنان في هذا المحور، حتى يكون في خدمة ما يأمر به "الولي الفقيه"، وجعجع يطمح وآخرين في إخراج لبنان من هذا المحور، مهما كانت الكلفة، لأنّ البقاء فيه يُنهي لبنان ويرميه في قعر الجحيم، الأمر الذي يتقاطع وإرادة المملكة العربيّة السعودية وروحيّة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي ومضمون المبادرة العربية- الخليجية التي كانت الكويت قد نقلتها، في وقت سابق، الى المسؤولين اللبنانيّين.

ولا يملك دعاة الحوار حلًّا وسطًا من شأنه أن يسمح بتلاقي الإرادتين المتضاربتين، لسبب بسيط أنّ "حزب الله" لا يؤمن، من موقعه، بتحييد لبنان عن حروب المنطقة التي هو جزء منها ولا عن صراعات محاورها التي هو في صلبها، في وقت لم يبدِ فيه أيّ طرف يحتاج لبنان الى دعمه معنويًّا وماليًّا للخروج من مآزقه، أيّ استعداد للتراجع عن موقفه من المسألة اللبنانيّة.

بطبيعة الحال، لا يملك لبنان القدرة على الصمود، في هذا الكباش، إذ إنّ حكومته التي تصرّف الأعمال تعاني من إشكاليات دستوريّة وميثاقيّة، واحتياطات مصرفه المركزي من العملات الأجنبيّة وصلت الى مستوى في غاية الخطورة، بحيث لا يمكنها إذا ما استمرّ الإستهلاك على وتيرة العام 2022 أن توفّر ضروريّات الإستيراد لكامل العام 2023، ووضعية إدارته العامة قد وصلت الى الحضيض، وقدرات شعبه قد استُنفدت وهي، في نسبة كبيرة منها أصبحت مرهونة لمساعدات المغتربين الذين يدخلون في واحدة من أسوأ السنوات صعوبة على الإقتصاديات العالمية.

أمام هذا الواقع، فإنّ الحل لا يكمن في الداخل اللبناني المأزوم، ولا بدّ من انتظار ما يُخفّف من "مأزوميّة" الإقليم حتى تنفرج جزئيًّا في لبنان، وهذا قد لا يحتاج الى عشرات السنوات كما قال نصرالله، ولا يتطلّب أكثر من عشر سنوات للوصول الى توافق، كما قال جعجع.