«جمهوريات البلطيق» هو مصطلح جغرافي- سياسيي، أو جيوسياسي، يستخدم الان -عادة- للإشارة إلى ثلاث دول صغيرة متجاورة، تطل على بحر البلطيق، شمال غرب روسيا. وهي كل من:

- أستونيا: وعاصمتها مدينة «تالين»، ومساحتها 45227 كم2، وعدد سكانها 1.4 مليون نسمة.


- لاتفيا: وعاصمتها مدينة «ريجا»، ومساحتها 64589 كم2، وعدد سكانها 1.9 مليون نسمة.

- ليتوانيا: وعاصمتها مدينة «فيلنيوس»، ومساحتها 65300 كم2، وعدد سكانها 3 ملايين نسمة.

أي اننا نتحدث هنا عن ثلاث جمهوريات، مجموع مساحتها 175116 كم2، ومجموع سكانها 6.3 مليون نسمة. أو ما يعادل سكان مدينة حديثة متوسطة. وهي بلاد صغيرة، بمختلف المقاييس الدولية. ولكنها تعد من الدول المتقدمة، وتحظى الآن بموقع استراتيجي بالغ الأهمية، خاصة بالنسبة لأمريكا وروسيا، ولحالة الصراع العالمي الأكبر. إذ لا بد أن يكون لها دور لوجستي هام في أي صراع عالمي، خاصة بين هذين القطبين. غالبية سكان كل من لاتفيا وليتوانيا تنتمي للشعوب البلطيقية، بينما غالبية سكان استونيا من الشعوب «الفينية». وقد كانت هذه الجمهوريات الثلاث، المتاخمة لروسيا، جمهوريات سوفيتية، ولكنها استقلت، كغيرها من تلك الجمهوريات، عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م.

وفي خضم سعيه للتوسع شرقاً، صوب حدود روسيا الغربية، نجح حلف ناتو في ضم هذه الجمهوريات الثلاث إلى عضويته، عام 2002م، محققاً كسباً استراتيجياً كبيراً، رغم المعارضة الشديدة لروسيا، التي عجزت عن وقف هذا الانضمام، الذي جعل قوات وصواريخ حلف ناتو على أبواب روسيا الشمالية الغربية. كما انضمت للاتحاد الأوروبي عام 2004م، وما بعده، والى منطقة اليورو عام 2011م، ولمنظمة التعاون الاقتصادي سنة 2015م. فأصبحت جزءاً من الغرب الأطلسي، المناوئ لروسيا.

****

تحد ليتوانيا من الغرب بولندا. وفي منطقة الحدود الليتوانية - البولندية، هناك ما يعرف بـ«فجوة سوالكي»، التي تمتد 65 كيلومتراً على بحر البلطيق، وتقع غربها مقاطعة «كالينينغراد» الروسية، التي هي عبارة عن جيب روسي في عمق دول البلطيق، يمتد لحوالي 200 كيلومتر على بحر البلطيق. وتحدها بولندا جنوباً، وليتوانيا شمالاً وشرقاً، وبحر البلطيق غرباً. وبهذه المقاطعة قاعدة عسكرية روسية متقدمة. إنها جيب غير متصل برا بالأراضي الروسية، ويشبه «شبه جزيرة مسندم» العمانية، في المنطقة العربية، الواقعة كجيب عماني في أرض الإمارات. وتبلغ مساحة مقاطعة «كالينينغراد» 15100 كم2، ويصل عدد سكانها لحوالى مليون نسمة.

وبعد غزو روسيا لأوكرانيا، تزايدت أهمية دول البلطيق، ومقاطعة كالينينغراد، خاصة بعد قرب انضمام كل من السويد وفنلندا (تقعا شمال البلطيق) لحلف ناتو. وقد أعربت جمهوريات البلطيق عن قلقها الشديد، ومخاوفها من غزو روسي مماثل. فبادر حلف ناتو إلى تعزيز قواته في الجمهوريات الثلاث، وفي شرق أوروبا؛ تحسباً لحصول هذا الاحتمال. وكل ذلك اعتبر تصعيداً للصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا، وزيادة في درجة التوتر الحاد بينهما، فيما يتعلق بهذا الصراع.

****

ورغم خطورة انضمام جمهوريات البلطيق الثلاث للناتو، على الأمن القومي الروسي (وهي خطورة تساوي -تقريباً- خطورة انضمام أوكرانيا للحلف، إن حصلت) إلا أن روسيا لم تستطع، حينئذ، منع ذلك الانضمام. حيث كانت لا تزال منشغلة في تبعات المرحلة الانتقالية، من عصر الإمبراطورية السوفيتية. وكانت في موقف ضعيف، أمام إصرار الغرب الأطلسي على التوسع شرقاً. وهو التوسع الهادف أصلا لمحاصرة روسيا، من كل الاتجاهات، بما في ذلك معظم الجنوب الغربي لروسيا. حيث ما زال حلف ناتو يسعى لضم كل من جورجيا وأرمينيا لعضويته.

الأمر الذي يوضح أساس وجوهر الصراع بين روسيا والغرب. هذا الصراع الذي يرجح أن يدفع روسيا لإقامة حلف مضاد للناتو، مع الصين، وغيرها. ويلمس المراقب هنا استفزاز الغرب للقوى الكبرى، والمبادرة لمضايقتها، في خضم سعيه المحموم للانفراد بالسيطرة التامة على العالم. وهذا مما ينفي الصفة «الدفاعية» التي يدعى حلف ناتو أنها أساس قيامه.

****

والواقع، أن معظم شعوب العالم غير الغربي تتوق -كما يبدو- لوجود قوى عالمية منافسة، تردع القوى الساعية للهيمنة المطلقة على العالم، خاصة بعد ما قاسته من استغلال، واستعلاء، وازدواج معايير الغرب. وذلك ليس محبة في القوى الأخرى، سواء أكانت الصين، أو روسيا، بقدر ما هو رفض عالمي لإطلاق يد الغرب الأطلسي على مقاليد الأمور في الكرة الأرضية. لذلك، نرى غالبية الرأي العام في الشعوب غير الغربية، تؤيد قيام النظام العالمي متعدد الأقطاب، معتقدة أنه «أرحم» من نظام القطب الواحد، خاصة عندما يكون هذا القطب أطلسيا.

والحقيقة، أن الغرب الأطلسي ينظر إلى روسيا باعتبارها قوة عظمى إقليمية فقط، وليست قوة عظمى عالمية. وتلك نظرة لها بعض أساس من الصحة. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل ما تمتلكه روسيا من موارد طبيعية هائلة، وأسلحة نووية ضاربة، تجعلها، خاصة بعد أن أشتد عودها، ونبذت حكم الحزب الشيوعي الواحد، قوة عظمى، رغم تخلفها التقني النسبي، عن كل من أمريكا والصين، والاتحاد الأوروبي. والملاحظ، أن نظام الأقطاب المتعددة قد أمسى واقعا سياسيا عالميا. وما زالت تتصدره أمريكا، وحلفاؤها، يليها الصين. وتأتي روسيا ثالثاً.