الصين هي الخطر القادم على الليبرالية الغربية والرأسمالية العالمية، هكذا صورت مراكز الدراسات والأبحاث والفكر الأميركية جمهورية الصين الشعبية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م. نعم، فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي والإعلان الرسمي عن غياب "الخطر الأحمر" الذي استمر مُنذُ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م، تعالت الأصوات في الأروقة الرسمية والبحثية والفكرية في الولايات المتحدة مُحذرة من "الخطر الأصفر" في إشارة مباشرة لجمهورية الصين الشعبية وما تمثله من أيديولوجيا بقياد الحزب الشيوعي الصيني، وقد ترافق مع هذه الأصوات المحذرة من "الخطر الأصفر" أصوات أخرى حذرت من "الخطر الأخضر" في إشارة للحضارة الإسلامية وأتباعها في المجتمع الدولي، إلا أن مستويات التحذير لم تكن بالدرجة المتوازية والكثافة المتصاعدة مع تلك الأصوات المحذرة من "الخطر الأصفر" وما تمثله - حسب تعبيرهم - من تهديدات مستقبلية للأمن والسلم والاستقرار العالمي، وأمام هذا التوجه المُتصاعد المُحذر من الصعود الاستراتيجي المتسارع، والنمو الاقتصادي السريع، والانتشار التجاري والاستثماري الواسع، لجمهورية الصين الشعبية على جميع المستويات وفي معظم المجالات الرئيسة والجانبية، وجهت الولايات المتحدة سياساتها، ووضعت استراتيجياتها، لتعزيز هيمنتها العالمية عبر إعادة رسم خارطة اهتماماتها السياسية والاستراتيجية في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي، ولضمان عدم وجود تحديات تؤثر سلباً على السياسات والمصالح العالمية للولايات المتحدة، ولمراقبة مؤشرات صُعود المُنافسين المُحتملين لمكانتها العالمية، خاصة جمهورية الصين الشعبية. نعم، هكذا كانت سياسة الولايات المتحدة تجاه المجتمع الدولي عامة، وتجاه جمهورية الصين الشعبية خاصة، مُنذُ عام 1992م وحتى نهاية عام 2022م، حيث لم تتجاوز السياسة الأميركية تلك الاهتمامات، في الوقت الذي ركزت فيه على تعزيز الرأسمالية العالمية في جميع مناطق واقاليم العالم بدون استثناءات حتى مع ما يطلق عليه أميركياً "الخطر الأصفر"، فإذا كان الوضع كذلك، فما الذي تغير بداية من العام 2023م لتبدأ الولايات المتحدة حرباً باردة جديدة محورها منطقة شرق آسيا وهدفها الرئيس جمهورية الصين الشعبية؟

إن الذي تغير في نظر الولايات المُتحدة تجاه جمهورية الصين الشعبية هو قراءتها الخاصة للتوجهات الصينية الجديدة، خاصة تلك المُتعلقة بالمسائل السياسية والاستراتيجية والتقنية والتكنولوجية المُتقدمة والنوعية. نعم، فالولايات المتحدة التي دعمت الرأسمالية الاقتصادية في الصين، والتي أشادت بسياسات الانفتاح الاقتصادي الصيني تجاه المجتمع الدولي، واستفادت اقتصادياً وتجارياً واستثمارياً ومادياً ومالياً من الأسواق الصينية الكبيرة، وتوسعت شركاتها العالمية فوق الأراضي الصينية مُستفيدة من رُخص الأيدي العاملة الصينية، لن ترضى بأن تتجاوز الطموحات والرغبات والأحلام الصينية حدود الاقتصاد والتنمية والتجارة والاستثمار والصناعات المتوسطة للمسائل العليا المتعلقة بمنافسة الهيمنة الأميركية العالمية. نعم، لقد رأت الولايات المتحدة أن التوجهات الصينية تغيرت تغيراً جذرياً عما كانت عليه لتصبح اهتماماتها وأهدافها وغاياتها الظاهرة والباطنة تغيير شكل النظام أو البينان الدولي من عالم الأحادية القطبية الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، إلى عالم ثنائي القطبية أو عالم متعدد الأقطاب. هذه الرؤية الأميركية للتوجهات الاستراتيجية الصينية بُنيت على مؤشرات عديدة عبرت عنها التصريحات الأميركية الرسمية خلال السنوات القليلة الماضية سواءً على مستوى الرئاسة الأميركية، أو على مستوى القيادات البرلمانية في الكونغرس، أو من خلال السياسات الأميركية المُتبناة تجاه الصين، وخاصة في الجوار الجغرافي للصين. إلا أنه من الأهمية القول إن جميع تلك المؤشرات الأميركية المعبرة عن القلق المُتصاعد من التوجهات الاستراتيجية للصين لم ترتق - حتى نهاية 2022م - للمستوى الذي يدفع الاستراتيجية الأميركية للتغير الجذري في التعامل السياسي والاستراتيجي مع الصين، وإنما التحول الجذري حدث بداية من 2023م بالسياسات والاستراتيجيات المُعلنة صراحةً من المؤسسات الأميركية.

نعم، لقد مثل قرار مجلس النواب في الكونغرس الأميركي، في 11 يناير 2023م، المتضمن تشكيل لجنة نيابية خاصة لشؤون الصين تحت مسمى "لجنة للمنافسة الاستراتيجية مع الصين" تحولاً جذرياً في الاستراتيجية الأميركية للتعامل مع الصين، فهذه اللجنة التي تشكلت بأغلبية برلمانية مؤيدة بلغت 365 صوتاً، مقابل 65 صوتاً معارضاً، هدفها الرئيس بحسب تصريحات الرئيس الجديد لمجلس النواب، الجمهوري كيفين ماكارثي، هو "حماية الأمن القومي الأميركي، والحفاظ على الملكية الفكرية للولايات المتحدة من السرقة، وإعادة سلاسل التوريد إلى الولايات المتحدة". وأضاف، "أن هذه اللجنة ستعمل على تحقيق كل هذه المسائل"، فإذا أخذنا هذه التصريحات إلى المستوى التحليلي فإننا نقرأ تغيراً جذرياً في الرؤية الأميركية للصين، وتعبيراً غير مباشر عن استراتيجية أميركية لمحاصرة التمدد الصيني خارج منطقتها الجغرافية، مع تكثيف المراقبة للتحركات الصينية الناعمة في مناطق العالم، بالإضافة للتعبير صراحةً عن حرمان الصين - ومن يتعامل معها - من التقنيات والتكنولوجيات المتقدمة والنوعية بهدف تعطيل التقدم الصناعي النوعي في الصين، كذلك العمل على جعل الولايات المتحدة المركز العالمي الرئيس للتقنيات والتكنولوجيات المتقدمة والنوعية، وليس أية دولة أخرى. إنها استراتيجية واضحة ومباشرة وصريحة هدفها الرئيس إخراج الصين من معادلة الدول الكبرى في المسائل السياسية والاستراتيجية والأمنية والعسكرية والتقنيات المتقدمة، مع إبقائها سوقاً للمنتجات الغربية والعمالة الرخيصة والصناعات التقليدية والبسيطة. إذاً نحن أمام استراتيجية جديدة تبناها الكونغرس الأميركي الجديد بحزبية الجمهوري والديمقراطي، ما يعني استمراريتها لسنوات أو عقود قادمة بغض النظر عن الحزب صاحب الأغلبية.

فإذا اعتبرنا هذه الاستراتيجية الصلبة التي تبناها الكونغرس تُمثل بداية لعصر جديد من عصور السياسة الدولية المتمثلة ببداية حرب باردة أميركية تجاه جمهورية الصين الشعبية، فإن تصريحات الرئيس الأميركي بايدن خلال استقباله رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، في 14 يناير 2023م، تؤكد بأننا نتجه لعصر جديد من عصور الحرب الباردة تقودها الولايات المتحدة تجاه جمهورية الصين الشعبية. فبحسب موقع الحرة، فإن الرئيس بايدين "أشاد بقوة تحالف البلدين والدور المتزايد الذي تنوي اليابان القيام به في حماية الاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقال: أريد أن أكون واضحا للغاية، الولايات المتحدة ملتزمة تماما وبشكل حازم وكامل هذا التحالف، والأهم من ذلك الدفاع عن اليابان"، ومرحبا بالزيادة التاريخية في الميزانية العسكرية لليابان واستراتيجيتها الأمنية الجديدة." كما "تضغط واشنطن من أجل فرض قيود أقوى على صادرات أشباه الموصلات الصينية." و"تظهر اليابان طموحات جديدة في مواجهة الصين تشمل الدفاع الفضائي ونشر مزيد من قوات المارينز في أوكيناوا وإبرام اتفاق عسكري مع لندن، وصارت طوكيو تعتبر أن بكين تمثل تحديا استراتيجيا غير مسبوق لأمنها." إن هذا اللقاء وما تضمنه من تصريحات مُعلنة يعبر بجلاء عن عصر جديد من عصور الحرب الباردة تقودها الولايات المتحدة ويساندها في ذلك حلفائها التاريخيين - خاصة الغربيين والدول الصناعية الكبرى.

وفي الختام من الأهمية القول إن المجتمع الدولي يشهد تحولاً عظيماً نحو الاستقطاب أحادي الاتجاه الهادف لتعزيز وتثبيت وتأكيد الهيمنة الأميركية العالمية وإنهاء تطلعات المنافسين لمكانتها مستغلة قدراتها وإمكاناتها، وموظفة لأجل ذلك حلفاءها وأصدقاءها التاريخيين شرقاً وغرباً، في حرب باردة غير مسبوقة في المسارات، وغير محسوبة النتائج النهائية. نعم، إننا نشهد بداية حرب باردة صعبة جداً على البادئ بها، وقاسية جداً على المستهدف منها، إلا أن الجانب الأكثر تأثراً بتبعاتها هي المجتمعات المُحايدة في سياساتها، والمتطلعة لبناء اقتصاداتها، والساعية للمحافظة على أمنها وسلمها واستقرارها، إلا أنها حرب تم التبشير بها قبل ثلاثين عاماً عندما اُستبدل "الخطر الأحمر" الغائب بـ"الخطر الأصفر" الصاعد، كما اخبرتنا بذلك مراكز الدراسات والأبحاث والفكر في المجتمع الأميركي.