تعلّق شبكة «سي. إن. إن» الأميركية على إعلان الولايات المتحدة واليابان عن «تعزيز كبير لعلاقتهما العسكرية، تضمن رفع مستوى وضع القوات العسكرية الأميركية في اليابان»، بقولها: إن «ما يحدث بين أمريكا واليابان يأتي ضمن رغبة وزارة الدفاع الأميركية في التحول من حروب الماضي في الشرق الأوسط إلى منطقة المستقبل في المحيطين الهندي والهادئ».

هل فعلاً أن أولويات الولايات المتحدة تغيرت، بعد أن رسخت دول منطقة الشرق الأوسط، سياسات تراعي التوازن الدولي، فاتجهت واشنطن بأنظارها إلى «منطقة المحيطين الهندي والهادئ»؟

في الواقع، إن انصراف الولايات المتحدة باتجاه آخر، لا يعني انفراجاً في القضايا التي تكون محل اهتمامها، فالمقاربات الأميركية للأزمات، عموماً، لم تبن على حلول مستدامة أو تصفية نهائية للقضايا الملحة، موضع النزاع.

من المؤكد أن الولايات المتحدة تدرك ذلك، ولكن المخاطر التي تستشعرها واشنطن تلعب دوراً حاسماً في تغيير أجندتها، وإعادة ترتيب أولوياتها؛ والتحدي الذي تستشعره الولايات المتحدة في «منطقة المستقبل»، يتضمن القلق على تفردها السياسي والاقتصادي والعسكري.

في المقابل، تدرك الولايات المتحدة بخبرتها، أن التحدي الرئيسي في «منطقة المستقبل» هو الصين. وهي تدرك أن أي اشتباك معها سيكون مثل افتعال شجار في متجر للخزف، لن يضعف الصين بقدر ما سيستنزف الدول الحليفة في جنوب وشمال شرق آسيا.

وهنا، من الملاحظ أن واشنطن، التي كانت تعبر عن تفردها بقدرتها على لعب أدوار متنوعة، في قارات مختلفة، في نفس الوقت، هي مضطرة اليوم إلى الاختيار بين الأخطار التي ينبغي أن تواجهها، فلم تعد قادرة على الوجود المكثف في أكثر من منطقة في العالم، في الوقت الذي تريد أن تكون فيه هناك، في «منطقة المستقبل». وهي تريد أن تكون في «منطقة المستقبل»، لكنها تعلم أن مهمتها مستحيلة.

إن هذا، يرجح أن الولايات المتحدة انتقلت من حالة الدولة ذات القوة اللامحدودة، إلى موقع الدولة صاحبة القدرة واضحة الحدود. وفي مثل هذا الوضع، فإن حالة الاشتباك الشاملة مع كل قضايا العالم ستصبح عبئاً، لا يمكن احتماله من جهة، ولكن لا يمكن التخلي عنه من جهة ثانية.

وهذه حالة لها اسم واحد: محدودية القوة!

وبالطبع، فإن التاريخ مليء بالدول التي شهدت حالات لا حصر لها بخصوص الانتقال من القوة اللامحدودة إلى المحدودة، وبعضها حالات مزمنة اليوم، وصادرة عن ضعف. ولكن هذا ليس أكثر خطورة، أبداً، من قوة عظمى تعيش تراجعاً في بؤر ومناطق مختلفة، وتضطر إلى نقل اهتمامها من منطقة إلى أخرى، بلا توقف.

ينعكس هذا بالضرورة على الوضع الداخلي، الذي يرى المراقبون اليوم أنه بات في الولايات المتحدة مفتوحاً على صراعات داخلية بلا ضوابط، كما ينعكس هذا قلقاً وتوتراً على الحلفاء الاستراتيجيين الكبار، مثلما نرى في أوروبا. كما ينعكس على الاقتصاد نفسه، الأميركي والعالمي.

وبالطبع، سيبقى العالم يشاهد أمريكا القوية، ويراهن على متانة نظامها السياسي، وقوة اقتصادها، وجبروت آلتها العسكرية، وقدرتها على النهوض من النكسات؛ لكن الاستحقاقات الكثيرة غير الملباة، والالتزامات العديدة تجاه قضايا ومناطق نزاع كثيرة في العالم، ستحل مرة واحدة، لتثبت حقيقة مؤكدة، هي أن «القوة» لا تعني، بالضرورة «القدرة»، بينما الالتزامات الأميركية في العالم، اليوم، تتطلب قدرة مطلقة.

وفي الحقيقة، لا تعاني الولايات المتحدة من الضعف، ولكنها تدفع باهظاً ثمن قوتها!