هل يريد اللبنانيون فعلاً رئيساً للجمهورية؟ الجواب البديهي هو "نعم". جواب أكيد ومنطقي، فلا أحد عموماً يحبذ العيش في بلد بلا رئيس، إلا من كان وجود رئيس يحرمهم من امتيازات الفراغ ويعطل مشاريعهم، وهؤلاء موجودون للأسف. اللبنانيون ليسوا مختلفين على وجود رئيس من عدمه رغم وصول بعضهم الى درجة اليأس التام وإعلانهم الانفصال عن البلد، أو على الأقل رغبتهم بالانفصال. لقد ضاق العيش كثيراً كثيراً ولم تعد فسحة الأمل تتسع للجميع. لم يعد الزمن زمن شعر ووطنيات وأخوانيات كتلك التي اتقنها شعراء المهجر من المغتربين الأوائل.


بعدما ضاقت السبل وصارت الحياة أشبه بجحيم، صار من العبث الحديث عن بقاء وإعمار وبناء مستقبل. لا أحد، تقريباً لا أحد، يريد أن يفني حياته من أجل لا شيء. الوطن هو مكان للحياة وليس مرقد عنزة ومقبرة، وطالما أن الحياة باتت متعذرة او شبه متعذرة، فلا أحد يلوم الآخر والكل ساعٍ الى الفرار قبل أن تغرق السفينة المخرومة نهائياً. لبنان كله سفينة هجرة سرية تتأرجح بين الغرق والوصول الى المجهول.

يريد اللبنانيون رئيساً للجمهورية على أمل ما. لكن الأزمة فعلياً ليست هنا. كان هناك رئيس للجمهورية ولم يمنع وجوده الانهيار، إنهار كل شيء وكان هناك رئيس وحكومة كاملة المواصفات الدستورية وبرلمان منتخب (شرعياً مبدئياً) وكانت هناك إدارة تعمل وموظفون يذهبون الى العمل ومصارف تضخ أموالاً بالدولار واليورو والليرة وبكل عملات العالم تقريباً. لم يبدأ الانهيار في مرحلة فراغ مؤسساتي. كان هناك فراغ، لكنه فراغ سياسي وأخلاقي قبل كل شيء. الكراسي المشغولة لا تدل الى حضور، بل ربما تشير الى فراغ.

يأمل اللبنانيون برئيس يرجون أن يعطي مجرد انتخابه دفعة تفاؤل. يعرفون أن لا شيء سيتغير بعصا كتلك التي كانت مع موسى يهش بها على غنمه ويتوكأ عليها وله فيها مآرب أخرى وتتحول حية تسعى اذا رماها أرضاً، على أفاعي السحرة. يعتقدون أن انتخاب الرئيس سيلجم ارتفاع الدولار والأسعار ويطلق عجلة الدولة ودوائرها المعطلة بفعل الأزمة المالية والفساد المتغلغل في شرايينها. في اعتقادهم شيء من الصحة، فالانهيار تسارع كثيراً في ظل التأزم السياسي الذي سببه عدم قدرة الطبقة السياسية على إنجاز أهم استحقاق دستوري في البلاد ترتبط به حركة البلد ككل بفعل النظام السياسي الذي يربط المؤسسات ببعضها بعضاً، فاذا تعطلت واحدة توقف الجميع عن العمل الطبيعي. لكن المبالغة في الأمل ستؤدي الى خيبة كبيرة لاحقاً، فالأزمة ليست أزمة وجود رئيس فحسب. إنها أزمة بلد متعثر على غرار شركات عادل إمام في فيلم "بوبوس"، هل يتذكر أحدكم فيلم "بوبوس"؟

ينتظر اللبنانيون رئيساً ويأملون، وكما يقال المكتوب يقرأ من عنوانه. الطبقة السياسية نفسها بامتداداتها الإقليمية والدولية التي "عينت" رؤساء منذ اكثر من ثلاثين سنة هي التي "ستعين" بالانتخاب "الشكلي" دائماً، رئيساً للجمهورية يأتي من بين ظهرانيها أو من العسكر. سياتي رئيس على الشاكلة نفسها يدير أزمة مستعصية أكبر منه ومن البلد الذي بات ضعيفاً ومريضاً الى درجة إدخاله غرفة العناية الفائقة ووصله بقارورة الأوكسجين.

ليس للبنانيين أن يحلموا برئيس يشبه لولا دا سيلفا البرازيلي المثقف الآتي من وسط الفئات الشعبية الحامل أفكاراً وبرنامجاً للإنقاذ. هذا أكثر من حلم. ليس لأن ليس هناك مثقفون وأصحاب أفكار وبرامج، إنهم موجودون، لكنهم ممنوعون من الوصول بقوة "السيستم" المدمر ذاته الذي وضع نفسه بين خيارين لا ثالث لهما: إما تدمير نفسه أو تدمير البلد فاختار تدمير البلد ليحفظ نفسه. لولا البرازيلي تعرض للاضطهاد ولفقت له التهم وسجن، لكنه عاد مجدداً الى الرئاسة بقوة الشعب في مواجهة طبقة سياسية كادت تشعل حرباً أهلية من أجل البقاء. إنه الشعب الذي اختار أخيراً ويحق له أن يأمل بأن يقوده لولا مرة ثانية الى الإنقاذ.

ربما على اللبنانيين أن يقبلوا برئيس من طراز رئيس جمهورية جنوب السودان سلفا كير الذي يقود مجموعة من القبائل في مجتمع منقسم مفلس جائع، ويتساوى بلده مع لبنان في انهما، مع فنزويلا، البلدان الثلاثة الوحيدة في العالم التي عجزت عن تسديد مستحقاتها الى صندوق الأمم المتحدة.
هل هناك حل وسط بين لولا دا سيلفا وسلفا كير؟ لننتظر.