الحياة في مصر كانت دائماً صعبة، أشبه بالكفاح اليومي لأغلبية المصريين، لكنها أصبحت لا تطاق للكثير. حتى انه بعد أن شعر بائعو الكشري أن الزيادات المتلاحقة لطبق الكشري أصبحت منفرة، اختاروا بيعه بأطباق أصغر. وارتفاع أسعار الدواء أصبح جاذباً لطرح أدوية مغشوشة. وأصبح هناك زبائن جدد للجمعيات الخيرية من الطبقة المتوسطة، التي انحدر مستواها إلى دون خط الفقر. كل هذا نتيجة لتدهور سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار أو العملات الصعبة بشكل عام، الذي دفع بمعدل الغلاء إلى نسب يصعب حسابها أو التنبؤ بها. وقبل أن نناقش أسباب الأزمة الاقتصادية التي تعج بمصر ودور دول الخليج في علاجها، نود أن نلقي ضوءاً على تاريخ الجنيه المصري.

0 seconds of 0 secondsVolume 0%
فقد سك الجنيه المصري كعملة معدنية في عهد محمد علي باشا عام 1834 مقابل ما يعادل قيمة محددة من الذهب والفضة، وطبع ورقياً عام 1899، وارتبطت قيمته بالجنيه الإسترليني. وكان يعادل 14 دولاراً عام 1884، أي قبل إصداره ورقياً بـ16 سنة. وظل صرفه الرسمي يعادل حوالي 3 دولارات إلى عام 1967. لكن رحلة الجنيه المصري من عام 1834 إلى 2023، حيث بلغ سعر صرفه إلى أكثر من 30 جنيهاً للدولار ليس موضوع تذبذب عملة، وإنما رحلة توضح تاريخ مصر السياسي والاقتصادي. فظلت الحكومات المصرية المتعاقبة تخفي السعر الحقيقي للجنيه، وذلك بالنفخ في قيمته المعادلة، مما أدى إلى تكوين سعرين متفاوتين: سعر صرف رسمي عالٍ، وسعر حقيقي منخفض، إلى أنه وبضغط من البنك الدولي، ثم تعويمه عام 1989، فأصبح الدولار يعادل 1.5 جنيه، لكن عندما تم تعويم الجنيه بالكامل عام 2001، انخفض سعر صرف الجنيه ليصبح الدولار معادلا لـ4.5 جنيهات. وهكذا ظل الاقتصاد المصري يزحف، بينما انطلقت اقتصادات دول كثيرة في العالم. ومع زحفه أخذت القيمة الحقيقية للجنيه بالتراجع، فقفز سعر الدولار ليعادل 11 جنيهاً في نهاية عام 2015، وبضغوطات من صندوق النقد الدولي الذي منح مصر قرضاً بـ12 مليار دولار، تم تخفيض قيمة الجنيه ليعادل 17 جنيهاً للدولار. وقد حقق الجنيه ثباتاً في سعر الصرف خلال الفترة 2016 - 2021، بل إن قيمته ارتفعت خلال تلك الفترة لتبلغ أقل من 16 جنيهاً للدولار، إلى اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية.

والحقيقة أن هناك أسباب عدة للأزمة الاقتصادية في مصر. أهمها أن الحرب الأوكرانية الروسية أدت الى تدهور الاقتصاد المصري، ففجأة غاب عن مصر ثلث إجمالي السياح، الذين يترددون على مصر من الروس والأوكرانيين. إضافة إلى ذلك، فإن أسعار القمح وأسعار الطاقة تضاعفت، وهما سلعتان مدعومتان من الدولة إلى حد كبير. فرغيف الخبز في مصر يكلف 5 قروش فقط، إلا أن الحكومة تدفع 90 قرشاً عن كل رغيف. ولتحقيق ذلك، تتحمل الموازنة الحكومية حوالي 2.7 مليار دولار سنوياً. وبالرغم من ارتفاع التكلفة هذه، فإن الحكومة تراجعت عن رفع سعر الرغيف تجنباً لردة فعل عنيفة من قبل الشارع.

السبب الآخر لتأزيم الاقتصاد في مصر يرجع إلى صرف حوالي 80 مليار دولار في بناء العاصمة الإدارية الجديدة، وفي طريقة تمويلها الذي كان على شكل إصدار سندات تصل فوائدها إلى %15، تم تحويلها إلى الخارج، من مستثمرين من خارج مصر. والطريقة التي تم بها تمويل إنشاء العاصمة الإدارية تذكرنا بالطريقة التي مول بها الرئيس رفيق الحريري بناء وسط بيروت، والذي كان بإعطاء فوائد مجزية على إيداعات بالليرة اللبنانية، ثم تحويلها إلى خارج لبنان مؤدية إلى انهيار قيمة الليرة اللبنانية. ووفقاً لبحث نشره محمود سالم (المقيم في برلين)، في تقرير عن الاقتصاد المصري لمعهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، فإنه تم تحويل 5 مليارات دولار من مصر إلى الخارج خلال الثلث الأخير من عام 2021، إضافة إلى 20 مليار دولار إلى الخارج بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. فهناك من حقق أرباحاً طائلة من سياسة تمويل إنشاء العاصمة الجديدة. وينتقد محمود سالم أنه بالرغم من عبء هذه الأزمة، فإن الحكومة المصرية وقعت عقداً بقيمة 8.7 مليارات دولار مع شركة سيمنز الألمانية لبناء شبكة القطارات في العاصمة الإدارية الجديدة.

الكل يعرف أن للأزمات الاقتصادية نتائج سياسية، وأن يقال إن عدم الاستقرار في مصر سيؤثر في الاستقرار في دول الخليج يبقى صحيحاً إلى حد كبير. والحقيقة أن دول الخليج تدعم اقتصاد مصر بأكثر من وسيلة، فإضافة إلى المساعدات المباشرة للحكومة المصرية، التي من بينها إيداع حوالي 20 مليار دولار من قبل أكثر من دولة خليجية في بنوك مصرية، هناك أكثر من خمسة ملايين مصري يعملون في السعودية ودول الخليج تبلغ تحويلاتهم السنوية لمصر ما يعادل 32 مليار دولار، وهذا الرقم يعادل ثلاثة أضعاف عائدات قناة السويس.

وحول ما إذا كان على دول الخليج الاستمرار في دعم مصر، أجاب %70 ممن سألتهم على تطبيق تويتر بـ«لا»، والذي أختلف معهم شخصياً، ليس لأسباب إنسانية فقط، وإنما لأسباب عملية. فالعالم العربي لا يحتمل تدهوراً سياسياً جديداً في مصر. هذا إضافة إلى أن استقرار الاقتصاد المصري وتطويره سيكون امتداداً لتطوير الاقتصاد في دول الخليج. لكن من يقدم الدعم له الحق في أن يتأكد أين سيصرف دعمه؟ ولا شك أن هناك تحفظات من خبراء اقتصاديين على أن بناء عاصمة إدارية بتكلفة 80 مليار دولار وبتمويل مكلف يعتبر خطأ استراتيجياً. هذا في الوقت الذي ظل مستوى التعليم في مصر في تدهور. فالتعليم العام في مصر يعتبر من الأدنى في نتائجه العالمية. ففي بعض الصفوف يزيد عدد الطلبة على 100 طالب، شبهها صديق مصري بعلب السردين. وأخبرني صديق آخر بأنه في مصر إذا لم تكن متمكناً اقتصادياً بعض الشيء، فأبناؤك شبه محرومين من التعليم. والمقصود هنا أن التعليم لا يتحقق من دون دروس خصوصية، هذا إذا كان أبناؤك في مدارس حكومية. والنجاح ونيل الشهادات في مصر لا يعني أن حاملها متعلم. وعادة ما تلجأ الحكومات، خصوصاً تلك التي ينفرد بقيادتها أشخاص، إلى تخليد عصرها بمشاريع بناء هندسية. فإن كان في مصر أو في غيرها، فإن التغيير في السلوكيات الإنسانية أصعب من بناء الطرق والجسور. فالارتقاء بالتعليم يتطلب جهوداً مختلفة، بما في ذلك أن تغيير القيادة المعنية بالأمر من نفسها وهذا صعب جداً.

لذا أرى أن على دول الخليج أن تكون واعية بحيث يكون جزء مهم من دعمها لمصر موجهاً لإحداث نقلة نوعية في التعليم في مصر، بل أرى أن تدهور مستوى التعليم في دول الخليج له علاقة مباشرة بتدهور التعليم في مصر، فمعظم المعلمين العاملين في أغلبية دول الخليج هم من المصريين، الذين هم أنفسهم ناتج نظام تعليمي متخلّف.

الأمر الآخر الذي على دول الخليج الانتباه له عند وضع خطة لدعم مصر اقتصادياً، هو أن من ضرورات الإصلاح الاقتصادي في مصر هو تفعيل الاقتصاد المصري، وذلك بالحد من دور الجيش في تسيير دفة الاقتصاد، فالجيش لا يبني طرقاً في مصر فقط، وإنما يملك محطات بنزين ومصانع للمعكرونة.

ومما يشجع على دعم مصر اقتصادياً، وكما يرى الباحث محمود سالم، أن هذه المليارات التي صرفت في السنوات الأخيرة في مصر لم تذهب إلى جيوب المحيطين بالقيادات.