من المعروف أن كل مجال من مجالات الحياة يمتلك لغته الخاصة، بعض العلوم، لا سيما الطب، مثلاً، طورت لغتها الخاصة داخل الإنجليزية على نحو خاص بالاعتماد على اللاتينية القديمة، والأمر ينطبق على مجالات أخرى، مثل الفلسفة والفنون، والتجارة، وعالم المال، والأعمال، والتقنية، وغيرها.

الأمر ليس جديداً، فمفهوم اللغة المهنية موجود ومعترف به، وهو يعرف بأنه لغة اصطلاحية مختصة أو لغة خاصة، وهي تضم منظومة من الكلمات والعبارات والمصطلحات المستخدمة في مجال معين متخصص. وفي العادة، يكون هذا النوع من اللغات غير مفهوم جيداً خارج نطاق التخصص؛ لأنها تعتمد على مصطلحات تقنية تميز نشاطاً أو مجموعة خاصة.

وفي العادة، يقال إن اللغة المهنية تنشأ على نحو طبيعي خلال الممارسة المهنية اليومية، وتلبي الحاجة إلى خلق مصطلحات تقنية محايدة، تلبي شروط الدقة وتؤمن سهولة الاتصال بين أشخاص من المهنة نفسها، وتتيح انتقالاً يسيراً من مستويات النقاش العامة إلى الخوض في التفاصيل المهنية، ومباشرة، من دون الحاجة إلى البلاغة الزائدة.

حسناً، ما طبيعة اللغة التي تتحدثها السياسة؟

في الواقع، يمكن بسهولة ملاحظة أن السياسة تتحدث بلغات شتى، إنها تتحدث أحياناً بلغة الأدب، ومرات بلغة العلم، وسواها بلغة الأخلاق والقيم، كما أنها تلجأ إلى لغات أخرى أكثر صرامة، مثل اللغة الاقتصادية ولغة القوة.

وبالطبع، يتحدد نوع اللغة السياسية بنوع الفعل السياسي نفسه، وعلى سبيل المثال سادت في التسعينيات لغة «اقتصادية»، تعزو كل معضلات العالم إلى التفارق الأيديولوجي، وتمنح المصلحة الاقتصادية المباشرة والمتبادلة الفضل في تحقيق السلم العالمي، بل وبالغت السياسة في ذلك، فألحت في خطابها اليومي على أن المصلحة المشتركة بين دول العالم يمكن أن تضع نهاية لكل أنواع الحروب، وتستبدل بها المنافسة المشروعة.

لا نحتاج للقول إن هذا الخطاب لم يأخذنا بعيداً عن الواقع المعروف تقليدياً، فما زالت الحروب تجري في هذا العالم، لا، بل إن المنافسة التجارية نفسها، رغم الاتفاقيات والقوانين التي تنظمها وتشرعنها، باتت هي نفسها سبباً للتوتر في العلاقات الدولية، ومثال ذلك العلاقات الأمريكية الصينية، التي تتوتر منذ سنوات بسبب ذلك.

اللغة السياسية

في الواقع، تحيل اللغة السياسية دوماً إلى حقول أخرى، اقتصادية، عسكرية، ثقافية، قيمية، وهي بهذا تمارس نوعاً من الوصاية العالمية على الخطاب والعقل الإنساني، وهو ما يثير في مرات عدة نوعاً من الصدام العقلي بين الفكر السياسي والفكر المتخصص.

وعلى الرغم من أن اللغة السياسية في محطات كثيرة تسعى إلى خلق نوع من التأييد العام لتوجهاتها، فإنها بالمقابل حينما تحتاج إلى تحقيق ذلك تتحدث بلهجة تعميمية تستند إلى التأكيد على القيم والمفاهيم الوطنية الخاصة بكل شعب، وأحياناً تلجأ إلى القيم الإنسانية العامة والشاملة.

لا تذهب السياسة للتحديد إلا في محطات محدودة في الأزمات والحروب، أما في الظروف العادية، فهي تلجأ إلى التعميم، الذي يُستخدم عادة في خلق مبادئ عامة؛ أي أنها تهيئ الظروف لأنواع من المتخصصين لبحث التفاصيل ضمن أطر ومبادئ محددة مسبقاً.

ربما تكون اللغة السياسية من أهم اللغات التي يتوجب دراستها للتحصل على نوع من الكفاءة في مسائل الإدارة العامة للدول والمؤسسات الدولية، لكن دراستها أكثر أهمية بالنسبة للمعنيين بالفكر والممارسة السياسيين؛ أي أولئك الذين تقع على عاتقهم مسؤولية عقلنة الممارسة الإنسانية؛ المفكرون في مجالات مختلفة.

وسؤال آخر: هل اللغة السياسية السائدة اليوم مفهومة بدقة بالنسبة للمتلقي العادي؟

يصعب الإقرار بذلك، فالفعل السياسي في العالم، اليوم، يذهب باتجاه حالات معقدة من التورية، ويحتاج إلى ألوان من اللغة المخاتلة، وهذا مفهوم؛ إذ إن مستويات الثقة بين القوى الكبرى تتراجع، والريبة إزاء الآخرين تتزايد.