لم تعد الحرب التي بدأتها روسيا في أوكرانيا بدوافعها تحت مسمى «العملية العسكرية المحدودة» تحمل دلالة اسمها، إذ ما عادت محدودة في الزمان بعد مضي ما يقارب العام على اندلاعها، ولا في المكان بعدما تورطت فيها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أيضا بدوافع وغايات ترتبط باستراتيجية أمريكية مدارها المحافظة على مركزها باعتبارها القوة الأعظم في العالم، ولا في الآثار، إذ بان بالمكشوف أنها حرب ستورث خرابًا أكثر فأكثر سيطال البشرية جمعاء إذا لم تتمكن قوى الخير والسلام في العالم من السيطرة على اتجاهها التدميري.

هذا ما تشير إليه الوقائع على الأرض الأوكرانية لتنذر بتبدل أدوات الحرب وتكتيكاتها تبدلاً ستساق به البشرية إلى مواجهة نووية ستكون، لو حدث ذلك، أبشع وأفظع مما شهدته هورشيما وناجازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 عندما استخدمت الولايات المتحدة سلاحها الذري لضرب المدينتين المذكورتين وإحالتهما إلى أرض خراب.

الفرضيات التي تثار هنا حول الحرب الروسية الأوكرانية هي: هل كان بالإمكان، لو لم تندلع هذه الحرب بين روسيا وأوكرانيا في 24 فبراير وتتورط أميركا وأوروبا فيها، تفادي حدوثها وتجنيب الشعب الأوكراني ويلات القتل والتشرد، أم أنها مسألة وقت لا أكثر ولا أقل بحكم حتمية اندلاع هذه الحرب وإن بشيء من التأجيل؟ وإذا ما تأجلت هل سيكون التأجيل حلاً للإشكالات القائمة بين روسيا وأوكرانيا، البلدين اللذين كانا يومًا ما شقيقين يظللهما غطاء كيان سياسي واحد اسمه الاتحاد السوفيتي، فضلاً عما يربطهما من أواصر الثقافة والعقيدة والعرق من قبل نشأة الاتحاد السوفيتي؟

أحاول إعطاء رأي محايد في هذا الجانب لأتحدث عن الفرضية الأولي وهي: هل كان بالإمكان تفادي حدوث هذه الحرب؟ فأقول: أعتقد أنه كان متاحًا جدًا تجاوز خطر الحرب وتخطي مسببات اندلاعها وتحاشي تورط دول أجنبية في النزاع المسلح، لو أن أوكرانيا وأميركا، من جانب، قد أخذتا المخاوف الروسية بعين الاعتبار، وهي مخاوف أفصحت عنها روسيا قبل الحرب، ولو أن روسيا أتاحت، من جانب آخر، زمنا أكبر للتفاوض حول تلك المخاوف قبل أن يتم التحشيد العسكري.

وفي يقيني أن روسيا لم تكن تثق تمام الثقة في نوايا السلطات الأوكرانية لإعطاء مزيد من الوقت لفرص تفادي النزاع المسلح، بناءً على الرغبة الأوكرانية المعلَنة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فالناتو والاستعداد الأوروبي والأطلسي لتسريع تحقيق الرغبة الأوكرانية رغم علمهم بأن في ذلك إعلان حرب صريح على روسيا، وبناء على سلوك سلطات كييف مع الأوكرانيين الروس، والذي وصفته روسيا بالسلوك النازي، ومحاولة تطوير جيشها بترسانة متطورة من الأسلحة الأميركية والغربية. أما أوكرانيا فإنها لم تكن تريد الحرب في وقتها الذي حددته موسكو لأنها لم تنه بعد مخططاتها في تسليح جيشها وتقويته لخوض هذه الحرب ومواجهة واحد من أقوى جيوش العالم، فقد كانت تراهن على نجاح سياسة المماطلة والمناورة في التعامل مع الجار الروسي موكلة إلى الزمن مهمة إنهاك القوة الروسية ومرتهنة في الوقت نفسه على استحالة أن تُفكر موسكو في شن حرب على دولة موعودة بالانضمام القريب إلى الاتحاد الأوروبي وتدعمها الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو.

ولهذا فإن سبب اندلاع الحرب كان مكتمل الأركان، وتعذر تأجيل شرارة الحرب الأولى، إذ بدأتها روسيا في وقت لم تكن أوكرانيا تتمناه. فتضخمت المشكلة وتضاعف حجمها وأثرها من مشكلة بين دولتين إلى مشكلة عالمية تنذر بعواقب خطيرة على البشرية خصوصًا وأن الصراع لم يعد عسكريا فحسب وإنما هو بالنسبة إلى أميركا وروسيا صراع جيوسياسي تحاول أميركا من خلاله الاحتفاظ بأحادية القطبية، في مقابل روسيا التي تحاول تغيير هذه المعادلة ليكون العالم متعدد الأقطاب.

نأتي الى الفرضية المهمة الأخري وهي: هل سيكون تأجيل الحرب حلا للإشكالات القائمة بين الدولتين؟ وفي ذلك أقول إن واقع الحال يشير إلى أن تأجيل وقت الحرب معناه هنا البحث في المخاوف الأمنية الحدودية التي صنفتها موسكو بالمخاوف الوجودية، وأثارتها لدى الولايات المتحدة لتبحثها مع حليفتها أوكرانيا. منع وقوع الحروب يحتاج إلى حلول للمشاكل القائمة وليس إلى تأجيل لزمن وقوع هذه الحروب. فطالما بقيت الحدود الأوكرانية الروسية ملتهبة فإنه لا شيء يمنع حدوث المحظور، وهذا ما حصل في الرابع والعشرين من فبراير. لهذا ما كان للحرب أن تؤجل؛ لأن التأجيل، إذا كان خيارًا أوكرانيا أمريكيا، فإنه بالتأكيد لم يكن مطروحا روسيا بسبب إنطوائه على مخاطر للأمن الروسي كانت مرشحة بالتزايد مع كل يوم يمضي، كما كان يرى ذلك الكرملين. فالتأجيل من دون البحث عن حلول للمشاكل هو بمثابة استمرار للتوتر، ولا يعني بحال من الاحوال انتهاء المشكلة.

من الواضح أنه من المحال- مع مجريات الحرب والخسائر الفادحة المترتبة عليها- العودة إلى الوضع الذي كان سائدًا قبل بداية الحرب، فالشرخ قد حصل، ومأساة الحرب قد طالت أسرًا وقرى ومدنًا ستظل آثار لعلعة الرصاص تدوي في ذاكرتها الجماعية لعقود. أوكرانيا ستسعى بما استطاعت من الحصول عليه من الدعم الأمريكي الأوروبي استعادة أراضيها المحتلة، وروسيا بما استطاعت من قوة ستحاول المحافظة على ما استولت عليه. فالحرب ستطول، والمؤكد فيها أن لا روسيا سترضى بالهزيمة ولا أميركا كذلك، وعليه فإن الخاسر الأكبر من الحرب هو الشعب الأوكراني.