بعد مرور عام، الحرب في أوكرانيا مستمرّة وستطول. الرئيسان الأميركي والفرنسي أقرّا بذلك أخيراً، أكّد الأول أن حلف شمال الأطلسي سيواصل دعم أوكرانيا "مهما طال الأمر"، وقال الثاني "جاهزون لنزاع طويل الأمد"، فيما دعا الأمين العام لـ"الناتو" الغرب إلى أن يكون مستعداً لأزمة طويلة مع روسيا. لكن ها هي الصين تعلن، للمرّة الأولى، أن لديها "مبادرة لإنهاء الحرب" ستتوجّه بها إلى موسكو.

في العام الذي مضى على الحرب لم تستطع روسيا حسم النزاع، وفي السنة الحالية ينصبّ الاهتمام على "معركة الربيع" التي عبّأت لها موسكو مزيداً من الجند ومن الأسلحة المتطوّرة، وتعتمد حالياً على قوات مجموعة "فاغنر" لإحراز تقدّم يمهّد الميادين لتلك المعركة. وفي الجانب الأوكراني هناك تعويل على الدبابات القتالية الغربية التي بدأت تدخل الخدمة، مع إلحاح كييف على طائرات حربية لا يزال الحلفاء الغربيون متردّدين في توفيرها لها.

في أكثر من مناسبة ألقى فلاديمير بوتين والعديد من المسؤولين الروس اللوم على "الدعم الأطلسي" الذي حال ويحول دون حسم سريع للصراع. لم يكن ذلك الدعم مفاجئاً أو غير متوقّع، بل معلناً مسبقاً، وقد تسبّب بهزائم محقّقة للقوات الروسية التي اضطرّت للتخلّي عن هدف إسقاط كييف وتغيير حكومتها وانسحبت إلى شرق أوكرانيا وجنوبها للدفاع عن المناطق الأربع التي أعلنت موسكو ضمّها ولا تزال تقاتل لتثبّت السيطرة عليها وتجعلها لاحقاً مكاسب لن تستغني عنها، بالإضافة طبعاً إلى شبه جزيرة القرم التي ضمّتها في 2014 ولم تعترف دول العالم بعد بتبعيتها لروسيا. وبما أن القوات الأوكرانية استطاعت، خلال الشهور الأخيرة من العام الماضي، استعادة أجزاء واسعة من المناطق الأربع، فإن إعادة الاستيلاء عليها سيكون الهدف الروسي من "معركة الربيع" وربما التوسّع أكثر غرباً لاستخدام الأراضي في المساومات المقبلة.
والأكيد أن العمليات الحربية ستستلزم إشغال الأوكرانيين بجبهات أخرى في الشمال الشرقي، لكن هؤلاء حلّوا هذه المشكلة مبدئياً بالاعتماد على قيادات لامركزية.

هذه المرّة تريد موسكو إظهار أنها استوعبت دروس عام كامل من تحوّل "العملية العسكرية الخاصة" إلى حرب تبدو مفتوحة وبلا نهاية. لكنها تدرك مسبقاً أنها لن تكون في صدد معركة خاطفة، وتريد أن تبرهن في الفترة المقبلة أن الأسلحة الجديدة مدّت جيشها بالقدرة على تحقيق الأهداف، بعدما بدّلت قادة أركانه مراراً وتعرّض جنرالاته لانتقادات لاذعة، أولاً من الزعيم الشيشاني رمضان قديروف الذي أصيبت قواته بخسائر كبيرة في القتال، ثم من قائد "فاغنر" يفغيني بريغوجين الذي شكا أخيراً من صعوبات في التجنيد لمجموعته حتى بين السجناء نظراً إلى ضخامة خسائرها. ويتهم الرجلان القريبان من بوتين الجيش الروسي بأنه تسبّب بتلك الخسائر، ويعزوان إلى "البيروقراطية العسكرية" فقدان بعض المواقع أو تأخير التقدّم في بعض آخر.

إزاء التوجّه المعلن إلى التصعيد، تبخّرت آمال الشهور الأخيرة في إمكان إنهاء الحرب خلال النصف الثاني من هذه السنة، ما يعني امتداد الأزمة إلى 2024 (سنة انتخابات التجديد لبوتين) وعدم ظهور مؤشّرات سلام تفاوضي قبل 2025، وهي السنة التي تقول الأبحاث إن بكين حددتها لمعركة استعادة تايوان. وربما تتوقف هذه الأخيرة على أي من الطرفين سيحقّق انتصاراً واضحاً، لكن هذا مستبعد في ظلّ استراتيجيتين، غربية قائمة على منع روسيا من الانتصار، وروسية قوامها عدم قبول بوتين بالهزيمة مهما كان الثمن. ومع اتفاق الخبراء العسكريين على أن التهديد النووي تراجع، وأن بوتين بات يربطه بحال واحدة لن تحصل وهي أن تتعرّض روسيا لـ"تهديد وجودي". لذلك سيكون الرهان على فاعلية الأسلحة المستخدمة خلال الشهور المقبلة لإظهار تفوّق أحد الطرفين، من دون أن يشكّل ذلك انتصاراً.

خلافاً لرغبة أوكرانيا وتصميمها على المقاومة، لا يريد حلفاؤها الغربيون روسيا مهزومة ويفضلون إدارة الأزمة لإبقاء روسيا عالقة في الصراع وغارقة في العقوبات التي فُرضت عليها. لحظة بداية الغزو الروسي لأوكرانيا تبقى شاهدة على أن التحالف الغربي فشل في مفاوضات تجنّب الصراع، وعلى أن بوتين ارتكب الخطأ الذي يدفّع روسيا ثمنه، وهو لم يكن راغباً في صراع طويل، بل في إنجاز سريع. لكن سوء التقديرات الروسية للكثير من العوامل، بينها استعدادات كييف للمواجهة ومدى الدعم الغربي، أجبر بوتين على التعامل مع احتمال إطالة الحرب الذي ساهم في صنعه. والإطالة تعني هنا أن الحلفاء الغربيين يواصلون الرهان على مفاعيل العقوبات التي عزّزوها أخيراً بحزمة عاشرة. وحتى الآن نجحت موسكو عموماً في تجاوز العقوبات كما في إحباط اعتقاد واشنطن بأنها يمكن أن تكون رادعة لكنها لا تستطيع التحكّم بأضرارها العميقة على المدى الطويل.

انعكست هذه العقوبات، بطبيعة الحال، على الدول الغربية التي فضّلت المواجهة الاستنزافية وتحمّل كلفة الحرب لإبقائها بعيدة وخارج أراضيها. وكما أن رهان الغرب على "تغيير" ما في الداخل الروسي لا يزال قائماً بلا مقوّمات واعدة، كذلك يبدو رهان بوتين على انقسام الغرب غير واقعي، لأن بوتين نفسه لم يترك أي خيار بديل للدول المشككة. فعلى رغم تعدّد الآراء والمواقف في أوروبا وفي الكونغرس الأميركي حيال دعم أوكرانيا وكلفته الداخلية، إلا أن انعدام الثقة في أهداف المحور الروسي – الصيني والنماذج اللاديموقراطية التي يطرحها بقي أقوى في إقناع المترددين والمعتدلين أو إفحام الانتهازيين الذين يستغلّون الأزمة لانتزاع مصالح في الصراعات المحلية على السلطة.

كانت نقاشات "الناتو" - موسكو، عشية الغزو، قد تناولت "الضمانات الأمنية"، وأحدثت انقساماً دولياً بين "تفهّم" المخاوف الاستراتيجية لروسيا من "سياسة التطويق" التي يمارسها حلف الأطلسي ضدّها، و"التفهّم" أيضاً لمخاوف الدول الاشتراكية سابقاً من طموح بوتين لاستعادة "الإمبراطورية الروسية" أو "السوفياتية" من دون أي اعتبار لاستقلال تلك الدول وسيادتها. كانت روسيا قد تقبّلت بصعوبة انضمام عشر من "دولها" السابقة إلى "الناتو"، وطلبت في مفاوضات أواخر 2021 ومطلع 2022 ضمانات (عدم ضم أي دولة جديدة إلى الحلف، عدم إنشاء قواعد جديدة في الدول المنضمّة...) وشكّل وجود سكان من أصول روسية ذريعة للتشدّد في أن تكون أوكرانيا "محايدة بلا أسلحة استراتيجية". مع الحرب قد تكون مسألة "الحياد" سقطت، ثم إن ضم مناطق وشمولها بضمانات الحماية الروسية "النووية" يُسقطان شرط انسحاب القوات الروسية من أراضي أوكرانيا لإنهاء الحرب، بل يعزّزان مطالبتها بـ"ضمانات أمنية" لا بد من أن تكون أطلسية، وإلا فإن الغزو الروسي سيملي شروط "السلام".