نتحدث عن المستقبل..

كثر الحديث خلال السنوات الأخيرة عن هموم المستقبل، ومطالبه، والتحديات التي تواجه هذا المستقبل، وتعددت الجهود التي تحاول ان تستشرف الكثير من القضايا والملفات المتعلقة بآفاق المستقبل وتحدياته وبواعث القلق من المستقبل، وفى هذا السياق جاءت القمة العالمية للحكومات التي عقدت خلال الايام الماضية في ابوظبي (13 - 15 فبراير 2023) بحضور 20 رئيس دولة وحكومة واكثر من 250 وزيرًا و10 الاف من رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين وقادة الفكر والخبراء العالميين البارزين على مستوى العالم في اطار هدف الانشغال بالمستقبل وقراءة المستقبل في ظل ايقاع متسارع تزاداد التحديات والأزمات..

القمة التي عقدت تحت شعار «تشكيل حكومات المستقبل» شهدت 220 جلسة تناولت التحديات التي يواجهها العالم واستشراف المستقبل فى سبيل الوصول الى رؤية مشتركة تسهم في بناء مستقبل افضل للدول والشعوب، وفي هذا الاطار تم تناول عدة قضايا من عناوينها العريضة من اهمها تحديات التنمية المستدامة، وقضايا التغيرات المناخية، والسياسات المالية العالمية وآفاق الاقتصاد الدولى، ومستقبل الرعاية الصحية، والتحديات التي تواجه اسواق العمل، والمتغيرات الدولية، وهي التحديات والهموم التى باتت ضاغطة على الجميع بدون استثناء وبشكل غير مسبوق، وهي في مجملها ذات صلة وثيقة بعنوان عريض: كيف نستعد ونتعامل مع المستقبل، وكيف نعمل على تطوير نماذج مبتكرة لتعزيز الجاهزية الحكومية للمستقبل ركيزته الانسان ودعائمه الاستشراف والاستباقية، وابتكار الحلول والاستجابة السريعة للمتغيرات والتغلب على التحديات والتغلب مع العوامل الطارئة غير المتوقعة..؟

القمة من بين اهم الخلاصات التى يمكن ان يخرج بها اي متابع لها ما تمثل في تلك الدعوة الدعوة للحكومات لمواكبة التحولات الكبرى بجاهزية وفكر استباقي، والتأكيد على ان رؤى المستقبل لأي بلد، او لأي امة رؤى متداخلة، وانه لا يمكن النظر الى المستقبل بصورة جزئية، بل بصورة متكاملة، سياسية واجتماعية واقتصادية، ومناخية، وثقافية، وان هذه الرؤى تتواصل وتتعمق بالتنمية الانسانية، وان التعليم والثقافة مدخلاتها الرئيسيان، وان اي مشروع لبناء هذه الرؤى هو مشروع اصلاحي الذي تظهر قيمته عندما يصبح حقيقة مفعلة، وعندما تكون هناك قدرة من الانتقال من نقطة الواقع الى مساحة البناء الفعلي والمدروس للمستقبل.

مخرجات القمة تستحق من المعنيين ببناء رؤى المستقبل التوقف عندها في المقدمة تلك التحولات الخمس التي سيشهدها العقد المقبل و ستغير مستقبل العالم نتيجة التطور التكنولوجي والتى تم الاشارة اليها في افتتاح القمة وعناوينها التغير المناخي، والخريطة الاقتصادية الجديدة وظهور تكتلات بثقل اقتصادي ونفوذ عالمي، ثم تحدي توفير الكفاءات والمهارات لوظائف المستقبل، وتحدي التحول الجوهرى بالعمل الحكومى، ونموذج الحكومات المستقبلية، وتحدى تغير الواقع والتغيرات غير المسبوقة، وتغيّر فهمنا للمستقبل، ولعل اعلان مؤسسة دبي للمستقبل اطلاق «مؤشر دبي للجاهزية للمستقبل» ضمن منظومة برنامج التميز الحكومي خطوة في هذا الاتجاه خاصة ان هذا المؤشر يستهدف تقييم استعداد الجهات الحكومية للمتغيرات، واستغلال الفرص المستقبلية محليًا وعالميًا، وتحديد سبل مواجهة التحديات.

في سبيل فهم المستقبل نجد ان هناك دولاً تولى الاهتمام بالدراسات المستقبلية، واستشراف المستقبل، والنظر في خريطة الوظائف والمهن التي تشهد تغييرًا، وتلك المهددة بالزوال، وهذه الدول في نطاق هذا الاهتمام تستثمر الكثير في سبيل احداث ثورة شاملة فى النظام التعليمي، ومنظومة البحث العلمي والدراسات، والعلوم والانتاج وكل ما يفضي الى الريادة والابداع والاهتمام بالمعادلات الحيوية، وكل الجزئيات المتعلقة بآفاق المستقبل والمتغيرات الدولية الجديدة، و انطلاقاً من كل ذلك ارى بأنه لابد اذا اردنا حقًا الاهتمام بالمستقبل مراعاة ما يلي..

- للانطلاق نحو المستقبل، لابد من معرفة الى اين نحن ذاهبون، لا بد من ذلك بكثير من الجرأة والشفافية والديمقراطية والمحاسبة على النتائج والانجازات.

⁃ للانطلاق نحو المستقبل ينبغي مشاركة قوى المجتمع ومؤسساته في رسم صورة المستقبل، وتحقيق شراكة فعلية معها، ونبذ كل صور تهميشها، وجعل هذا الموضوع في قلب النقاش السياسي، وقد جاء أمين عام الأمم المتحدة في كلمته الرئيسية التى القاها عن بعد في القمة قد ليؤكد على هذا الجانب حين شدد على «اهمية التعاون مع المجتمع المدني من اجل المصلحة العامة».

- للانطلاق نحو المستقبل، لابد من التحلل من أسر المفاهيم الضيقة والسياسات العقيمة والمراوحات الفاشلة والعناصر العاجزة والفاشلة والفاسدة، واعطاء الفرص اللازمة للمؤهلين من اصحاب الفكر الاستباقي، مع تعميق مفاهيم ومتطلبات التقدم وترسيخ مفاهيم المواطنة والحرية والعدالة..

- للانطلاق الى المستقبل لابد من الاعتماد على الكفاءات والعلماء وكل من بمقدورهم بناء مجتمع يعيش الحاضر بكفاءة ويستوعب بكفاءة متطلبات التغيير والتطور وكل مقتضيات الدخول الى المستقبل بالأفعال وليس بالشعارات الفلكورية..!

- للانطلاق إلى المستقبل لابد من مجتمع تتكافئ فيه الفرص لجميع أبناءه، ويتساوى فيه الجميع.. ويعتمد فى كل مساراته على قواعد الجدارة والاستحقاق والروح المثابرة وكل ما يترجم فعلياً نمط تفكير جديد، وعقلية جديدة تمضي بثبات الى الامام.

- للانطلاق الى المستقبل لابد من الاهتمام النوعي المدروس بالشباب وإرساء معايير جديدة للأجيال، بالجامعة وبجودة وتطوير التعليم، بالصحة، بالاقتصاد الحيوي المستدام والمنتوع، بالاستثمار الجاد والمدروس في التنمية البشرية، بالاعلام الفاعل، بالادارة التي تمتلك كل مقومات الأهلية والكفاءة، بالثقافة والابداع، بالفنون، بالأمن الاجتماعي، بالتخطيط والتنظيم والمثابرة، وتحسين جودة حياة المواطنين.

ذلك بعض مما يقتضيه المستقبل، لانريد تضخيم المهمة، مهمة الانطلاق الى المستقبل بحيث نصل الى اليأس، ولا نريد تبسيطها بحيث نصل الى الخيبة، فالموضوع يتصل بالمعضلات والتحديات التي نواجهها، ولكن اذا توفر القرار، وتوفر وهج الإرادة والفكر الاستثنائي، وتوفرت القناعة بان المرحلة المقبلة لها شروطها وتحولاتها، حينئذ يمكن ان نمهد بالمثابرة والاصرار بناء الأساس السليم الذي يمضي بنا وبثقة نحو المستقبل الواعد بثقة وأمان.