إن كان العالم اليوم، يقف مشدوها لهذه القفزة النوعية التي تشهدها المملكة العربية السعودية في مجالات الثقافة والفنون والرياضة وغيرها من النشاطات الحيوية، فليس لأن الأمر قد تم بعصا سحرية.

القاعدة التي انطلقت منها رؤية 2030 هي أن هذه البلاد مترامية الأطراف والضاربة في التاريخ والجغرافيا، لها من زخم التنوع الثقافي ما يجعلها محط أنظار العالم، لا بل أحد أهم مراكزه التي تصنع الحدث وتقود القاطرة بجدارة.

كل شروط النجاح متوفرة، وأهمها استعداد المجتمع السعودي بكل شرائحه وفئاته العمرية لتقبل هذا الانفتاح ومن ثم إغنائه بمبادرات فردية وجماعية، وذلك لطبيعته وتركيبته النفسية البعيدة عن التشنج، والمعتادة على تقبل الآخر. يبدأ الاستعداد الفطري للانفتاح والتفاعل مع ثقافات العالم، من مواسم الحج، واستقبال الوافدين من الخبراء والعمال، ووصولا إلى الرغبة في اكتشاف الآخر عبر رحلات السياحة والترفيه التي اعتاد أن يمارسها السعوديون بفضل ما ينعمون به من رفاهية يندر وجودها في بلاد أخرى.

أما الأهم من ذلك كله، فهو القرار السياسي الذي من دونه لا تنهض الأمم ولا تلتحق بركب الحضارة. وجاءت مبادرة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بمثابة الاستجابة لجميع هذه المعطيات فأصبحت المشروع الحضاري الذي سيغير وجه المنطقة مرة واحدة وإلى الأبد.

طبعا اختار الأمير محمد بن سلمان لرؤية المملكة 2030 كفاءات عالية، من بينها المشرفون على تنظيم قطاع الترفيه بقصد توفير الخيارات والفرص الضرورية لكافة شرائح المجتمع في كل مناطق المملكة، لإثراء الحياة وإعطائها ما تستحقه من بهجة واحتفاء باعتبار الإنسان غاية وهدفا.

ولتستقيم وتتكامل الحلقات، كان لا بد من تحفيز دور القطاع الخاص في بناء وتنمية نشاطات الترفيه، وإشراكه في المشروع ضمن رؤية شاملة تقوم على الاستثمار في الثقافة.

الترفيه هنا كلمة توشك أن تقع في الالتباس ويُساء فهمها من أطراف عديدة، سواء من الجمهور المتلقي أو من المصدر والجهات المكلفة بالإشراف على النشاط وتبليغ الهدف.

ما يجعل الحذر قائما حول النشاطات الترفيهية هو كيفية تصنيفها من قبل القائمين عليها، ذلك أنها حمالة أوجه، وتقبل التأويل. لكن ذلك يتوقف على طبيعة ما يُقدم، وهل أن استدعاء العروض الأجنبية وتجميعها تحت سقف واحد، كفيل بصناعة مهرجان أو ندوة أو ملتقى فكري أو فني أو رياضي.

والسؤال الأبرز هو هل أن المراد بالنشاط الترفيهي هو التسلية والتمتع بأوقات الفراغ كيفما اتفق أم أن له ضوابطه الاجتماعية والثقافية تحت سقف الرؤية التي تريدها سياسة البلاد؟

الإجابة تأتي من صلب وزارة الثقافة السعودية التي حددت أهداف عملها في تعزيز الثقافة كأسلوب حياة، وتمكين الثقافة من المساهمة في النمو الاقتصادي، وخلق فرص للتبادل الثقافي العالمي.

كل هذه الأهداف تتأتى من النشاط الترفيهي وتتحقق من خلاله لأنه يغير قواعد اللعبة، ويصبح للثقافة مفهوم شامل يضطلع بدور تربوي واقتصادي واجتماعي، وليس مجرد الحشو والتجميع دون منهج واضح.

ولكي تتحرر الثقافة من برجها العاجي وأقفاصها الأكاديمية الضيقة، ينبغي أن تأخذ بعدا ترفيهيا يحقق المتعة والفائدة في آن معا، ذلك أن بناء المجتمع المتماسك وتنشئة الفرد المحصن من الانغلاق والتطرف، لا يكون إلا من خلال ما توفره الدولة من نشاط ترفيهي يعطي قيمة مضافة إلى أي منجز ثقافي أو فني أو رياضي.

الجميع يتفقون على أن الترفيه وحده، لا يكفي من دون حركة ثقافية مصاحبة ومدعومة من الدولة، وإلا فستكون النتائج عكسية، إذ لا بد من التشجيع على الإنتاج المحلي أولا ثم المشترك ثم العالمي، كي لا تكون الحالة استهلاكية، وتصبح الفضاءات والمؤسسات الثقافية أشبه بأسواق حرة لا ملامح خاصة لها.

وبالعودة إلى ما يمكن أن تثيره كلمة الترفيه من التباسات، ينبغي أن نعي بأن المتعة التي ترافق النشاط الترفيهي، ليست بتلك الصيغة السطحية والغوغائية، وإنما تتأسس على زخم فكري وثقافي يحتاج إلى محتوى وأعمال روائية ونظرة مختلفة للموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية.

تعميم الذائقة الفنية والإبداعية الراقية عبر الترفيه، مهمة ليست بالسهلة، لكنها آتت أكلها بالمملكة في وقت قياسي، وبدأت النتائج المدهشة بالظهور كما في جميع التظاهرات التي تمحورت حول رؤية 2030 وحضرتها أبرز الأسماء العالمية التي عبرت بدورها عن اندهاشها.

السعودية كسبت هذا الرهان بفضل الأداء المنضبط والمحكم للجهات المشرفة، يضاف إلى ذلك الجرأة السياسية التي اتخذت القرار وانطلقت من معطيات واقعية وليس من مجرد الرغبة في التجديد وركوب المغامرة.