سيغموند فرويد علم بارز مبدع في عالم العلم والمعرفة، وقد صاغ علمًا جديدًا من خيوط النفس البشرية، وكان المدخل الى هذا العلم هو بحثه العلمي في تفسير الأحلام، وإخراج ظاهرة الأحلام من دهاليز مظلمة من التفسيرات الكيفية الواهية التي غلب عليها سذاجة التفكير وشيء من الدجل الى المجال العلمي المشع نورًا، ومن التفسير العلمي لحياة النوم، وهي الأحلام، الى التفكيك النفسي للاحلام ومنه الى اكتشاف المقابل للشعور وهو اللاشعور.

هذه هي صورة العالم الكبير سيغموند فرويد المرسومة في أذهان الناس، ولكن هذه هي صورته العقلية، فماذا عن صورته النفسية النابعة من طبيعته كانسان فرد أمام الانسان في كليته الانسانية؟ وكيف يرى نفسه بينهم؟ وهو الضليع بالخيوط العصبية الدقيقة التي تُفَعِّلُ نفوس البشر..

فرويد العالم عَرّفَ الانسان بمكنون نفسه الخفية في لا شعور يُسَيِّرُ شعوره، وهو العالم بدقائق النفوس التي تتراقص حينًا بين الحرب والسلام وتتأرجح حينًا بين الشر والخير، والخبير بالانسان الذي يتهافت الى إشعال نيران الحروب، وأولئك الذين تتملكهم الحيرة بين الحرب والسلام، وآخرون قلة يكافحون من أجل السلام وخير البشرية ودوام رفاهيتها وسعادتها، وعالمنا الكبير سيجموند فرويد من بين هؤلاء القلة.

اهتمامات فرويد ليست محصورة في علم تشخيص نفوس البشر، ولكنها تمتد الى كامل نشاط الانسان ومن ثم تاريخه ومجتمعه ونضاله من أجل لقمة عيشه وآلامه وآماله، والأمَرُّ هو صراع او صدام الانسان مع نفسه، وقد فلسف هذا الصدام المفكر السياسي الامريكي المعاصر سامويل هنتنجتون في كتابه «صدام الحضارات» والذي رسم هذا الصدام كأنه القدر المحتوم الذي لا سبيل الى وقفه، وهذه فلسفة عدمية لا تستسيغها روح سيغموند فرويد المكافح من أجل وقف هذا الصدام وإحلال السلم والأمان. سيجموند فرويد يقف بقوة المكافح الملتزم بقضايا الانسان ضد تلك العدمية التي تسد الطريق وتحطم الوسائل أمام أمل الانسان في حياة دون حروب، وقد عبّر عن هذه الروح المكافحة في كتابه «الحب والحرب والحضارة والموت»، حيث يتعرض الى النفس البشرية بسمتها الأنانية والتي هي الدافع الاساس الى الحروب وكراهية الانسان للانسان، ويخصص فصلًا عن سيكولوجية الحرب، وعن الاخلاق والوجه الحقيقي للخير والوجه الزائف للخير وهو النفاق، ويدعو الى ان تجتمع البشرية على الحب، ويقول بمرارة: «.. ونحن مدفوعون (مضطرون) الى الاعتقاد بأن الحرب كانت دومًا أعتى الاحداث وأوسعها تدميرًا لكل ما له قيمة انسانية، ولم يحدث أن ضلل شيئٌ أذكى العقول ولا سَفَّهَ شيء أسمى ما عرفه الانسان بقدر ما تفعل الحرب». وفي مراسلة مع العالم الشهير اينشتاين في عام 1932، يتم تبادل الافكار حول الحرب والسلم، إذ يبادر اينشتاين بتوجيه رسالة الى فرويد موضوعها «هل هناك من وسيلة تنقذ البشرية من كارثة الحرب؟»، وأمام هذا السؤال الذي يعبّر عن القلق على مصير البشرية من حماقة الانسان يتجاوب فرويد برد مطول يشرح فيه فلسفته الاخلاقية في الحياة وزبدة قوله: «في حوزة البشرية ما يكفي من المال والثروة والغذاء إذا وزعنا ثروات العالم بشكل سليم، بدلًا من ان نجعل انفسنا عبيدًا للعقائد الاقتصادية والتقليدية الجامدة. وعلينا قبل كل شيءٍ أن لا نتوقف عن التفكير ونسمح بعرقلة جهودنا البناءة واستغلالها بغية إشعال حرب جديدة. وأنا لست إنسانًا مسالمًا فحسب، بل مسالم ومكافح أيضًا، وأسعى من أحل تحقيق السلام. وليس هناك ما ينهي الحرب إلا إذا رفض الناس كلهم الانخراط في الخدمة الحربية».

ومن مؤلفات سيجموند فرويد التي تصب في اتجاه السلام والقلق على مصير الانسان وضرورة الارتقاء بالحضارة هي «أفكار لأزمنة الحرب والموت» و«قلق في الحضارة» و«كتابات مختارة» الذي يتضمن المراسلة مع آينشتاين، وقد تم ترجمة هذا الكتاب الى العربية تحت عنوان «الغريزة والثقافة - ترجمة حسين الموزاني من منشورات دار الجمل».

هذه الروح الانسانية الراقية والقلقة على مصير البشرية من تتابع الحروب دون توقف واستمرار مآسيها، بل بتصاعدها من عصر الى عصر، كانت هي الدافع الذي حفز فرويد الى البحث في النفس البشرية ومن ثم الارتقاء من البحث الى تأسيس علم النفس، ويبدو أن فرويد أراد من التبحر في اعماق النفس البشرية مدخلًا الى تشخيص هذه النفس المعتادة او المدفوعة الى التقلب بين الخير والشر، ومن ثم الانتقال في البحث الى ذاك السبيل الذي يمكن ان يسعف به نفسه الجريحة من معاناة البشر بما يعينه على وقف هذه المعاناة التي لم تتوقف منذ ولادة الانسان. إنه المكافح الجريح الذي يسعى الى ضماد جرح غيره حتى يبرأ جرحه..