أكثر القادة في العالم ارتياحاً مع وضعه هو الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي أُعيد انتخابه هذا الأسبوع لولاية ثالثة غير مسبوقة مُدّتها خمس سنوات بالإجماع، بصفر أصوات معارضة وصفر امتناع. وكان شي حصل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي على تمديد لفترة خمس سنوات على رأس الحزب الشيوعي الصيني واللجنة العسكرية، وهما أهم منصبين في سلم السلطة.

أكثر الزعماء هوساً وخطورة قد يكون الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون الذي نصب شقيقته كيم يو جونغ شريكة في السلطة وعكفاً معاً على اللعب بأدوات نووية وصاروخية تدبّ الرعب لأنهما خارج السيطرة بلا أدوات لردعهما. هذا الأسبوع، أصدرت الشقيقة بياناً حذرت فيه من أن أي تحرك لإسقاط أحد صواريخ التجارب البالستية- التي أطلقتها كوريا الشمالية بعد أيام على الإنذار- سيُعتبر إعلان حرب. وأتت التجربة قبيل بدء أهم تدريبات عسكرية مشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية الأسبوع المقبل تحت اسم "درع الحرية" وتستمر لمدة 10 أيام.

القيادة الأميركية لمنطقة المحيطين الهادئ والهندي قلّلت من أهمية التجربة الصاروخية الكورية لكنها أكدت أن برامج أسلحة الدمار الشامل لبيونغ يانغ مزعزعة للاستقرار في المنطقة. فكوريا الشمالية تبقى "صندوق باندورا" الأخطر بسبب طبيعة قيادتها وحيازتها على الأسلحة النووية. القيادة الإيرانية تقتدي بنموذج القيادة الكورية الشمالية لجهة تمكّنها من وضع العالم تحت الأمر الواقع وحيازة القدرات النووية رغم أنف المعارضين. كلاهما يعتبر القيادات الأميركية المتعاقبة ضعيفة وخائفة من التحدّي والمواجهة العسكرية، ولذلك تراهنا على أن أميركا دائماً تنحني. كلا القيادتين تنظران الى القيادة الصينية بإعجاب، وربما بغيرة، لأن هذه قيادة بصفر امتناع وبصفر معارضة.

الرئيس الأميركي جو بايدن لن يحلم بعملية انتخابية بصفر معارضة لأن طبيعة الانتخابات الأميركية الديموقراطية لا تسمح اطلاقاً بما تسمح به الانتخابات الصينية بإدارة الحزب الشيوعي واللجنة العسكرية. من هذا المنطلق، يبقى أي رئيس أميركي أضعف من أي رئيس صيني لأنه دائماً معرّض للانتقاد وللمحاسبة. لكن هذا لا يعني أن المؤسّسة الأميركية العسكرية والمدنية ركيكة، باعتراف الصين نفسها. فأميركا حقاً "دولة عميقة" وهي واثقة أنها ستبقى في سدة القيادة وعازمة على الحفاظ على العظمة الأميركية العالمية مهما تخيّلت الصين غير ذلك.

اليوم، تحتل الصين المرتبة الأولى في سلّم الأولويات الأميركية لجهة المنافسة، ويبقى الرئيس القوي شي جينبينغ أهم الشخصيات التي تراقبها واشنطن عن كثب. فقد نصبته المؤسسة الحاكمة في الصين قائداً بلا منازع، وهذا يجعله من أقوى الرجال في العالم... وأكثرهم حنكة سياسية.

الرئيس شي لم يحرق أوراقه في الحرب الأوكرانية التي يخوضها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتي اعتبرها الرئيس الصيني تهوّراً لم يكن ضرورياً- أقلّه بالدرجة التي لجأ اليها بوتين ردّاً على استفزازات حلف شمال الأطلسي "ناتو".

الرئيس الروسي سعى لأن يكون قائداً مميّزاً لروسيا يعود بها الى العزّ والاعتزاز في أعقاب تدمير الاتحاد السوفياتي على أيادي الولايات المتحدة وحلفائها- كما من خلال قياداتها بدءاً من ميخائيل غورباتشوف وانتهاءً ببوريس يلتسين، وفق تفكيره. مغامرته بـ"العمليات العسكرية" الروسية في أوكرانيا ردّاً على "إهانات" الغرب له وإصرار الناتو على توسيع عضويته بما يشمل أوكرانيا ورّطته في حرب استنزاف لروسيا ولقيادته.

كان الرئيس فلاديمير بوتين بالأمس القريب ندّاً لعدد كبير من القادة الكبار في العالم، لكنه اليوم خسر الكثير بسبب الحرب الأوكرانية وبات على عتبة عزلة عالمية شبه قاطعة.
ما زالت العلاقات بين الصين وروسيا علاقات تحالف سياسي، لكنها ضعفت. الرئيس شي حريص جداً على ألاّ يبدو حليفاً للرئيس بوتين في حربه الأوكرانية، وقد سعت الدبلوماسية الصينية في الأسابيع القليلة الماضية وراء لعب دور الوسيط لتطمئن القيادات الأوروبية ولتستدرك الاتهامات الأميركية لها بأنها تمد روسيا بالذخيرة في حربها الأوكرانية.

الرئيس فلاديمير بوتين ما زال في انتظار زيارة فائقة الأهمية له يبدو أن الرئيس شي جينبينغ لم يحدد لها بعد موعداً دقيقاً. فالرئيس الصيني قد لا يستعجل الزيارة الى موسكو قبل وضوح مسار التطورات الميدانية العسكرية في أوكرانيا والتي ستشهد عمليات هجومية روسية وأوكرانية نوعية هذا الشهر وفي الشهر المقبل. ثم أن إدارة بايدن والماكينة الأميركية تصعّد ضد الصين في الفترة الأخيرة لتتهمها بتوفير المساعدات العسكرية لروسيا في حربها الأوكرانية، والرئيس شي لا يريد أن يقع في فخ الاستفزاز لا سيما وأنه لم يكن مقتنعاً بالمغامرة الروسية في أوكرانيا.

هناك اختلاف بين القيادتين الصينية والروسية في شأن المسار الاستراتيجي والتكتيكي. زيارة الرئيس شي الى موسكو ستؤخذ ببالغ الجديّة في العواصم الغربية لأنها ستكون رسالة استراتيجية وتكتيكية. لذلك، قد يقرر الرئيس الصيني التمهّل وقد يؤجِّل أو يلغي الزيارة التي ينتظرها الرئيس بوتين ببالغ التطلّع- وهو في حاجة ماسة لها. القرار لم يُحسَم بعد، والقيادة الصينية وحدها هي التي تعرف طبيعته.

قبل الحرب الأوكرانية كانت العلاقة الصينية - الروسية استراتيجية بامتياز، لكن اهتزاز روسيا في الساحة الدولية وافتقادها دورها في صنع القرار العالمي بدأ يؤثر على تلك العلاقة. فالصين يهمّها الصين بالدرجة الأولى، والصين براغماتية تركّز على مشاريعها الاستراتيجية وتطلعاتها لتكون دولة عظمى تنافس الولايات المتحدة، بل تحلّ مكانها في مرتبة العظمة. ولدى القيادة الصينية رؤية وخريطة طريق وجهوزية للتأقلم كما تقتضي مصالحها. والحاجة اقتضت إعادة صوغ العلاقات الصينية - الروسية وكذلك الصينية - الإيرانية.

بالأمس القريب، قبل الحرب الأوكرانية، كان الثلاثي الصيني - الروسي - الإيراني محوراً للأوتوقراطية الثلاثية يُؤخَذ ببالغ الجدّية نظراً لأبعاده العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والنفطية ونظراً لتحدياته الجيوسياسية والإقليمية. اليوم، اختلفت المعادلة بسبب الحرب الأوكرانية ذاتها كما بسبب تداعياتها وإفرازاتها إيرانياً.
فالقيادة الإيرانية تورّطت كطرف مباشر إلى جانب روسيا بإمدادات عسكرية لها في حربها على أوكرانيا. هناك اليوم في طهران من يحاول التملّص من هذا التورّط ليزعم أن المسيّرات الإيرانية تم إمدادها الى روسيا قبل الحرب الأوكرانية- وهذا يكشف جزءاً من الخلافات داخل بوتقة السلطة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ذلك أن جزءاً منها يؤمن أن أفضل مصير هو الربط بين طهران وبيونغ يانغ، وجزءاً آخر يصرّ على الرهان على الإدارة الأميركية تحت قيادة الحزب الديموقراطي لاستئناف مفاوضات فيينا ولرفع العقوبات وللجم أي شهية إسرائيلية لضرب المفاعلات النووية الإيرانية.

الخلاف على السلطة في طهران يحتد وراء الكواليس مع تدهور صحة مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي واحتدام المعركة على خلافته. بعناوينها الرئيسية، إن المعركة هي بين رجال الدين وبين رجال "الحرس الثوري" العازم على أن تقع السلطة الفعلية في أياديه وأيادي ما يسمّى بالسلطة اللادينية مع الإبقاء على دستور ومرجعية الجمهورية الإسلامية بمرشدها وحكم رجال الدين إنما بصورةٍ أضعف وبأداءٍ محدود.

القيادة في طهران ليست بصفر معارضة أو بصفر امتناع، وإنما العكس تماماً. ليست قيادة على نسق القيادة الصينية التي اختارت واصطفت وراء الرئيس، كحزب حاكم وكلجنة عسكرية، فباتت صلاحياته شبه مطلقة، بلا تحدٍّ يُذكَر. إيران اليوم تواجه وتقمع احتجاجات شعبية واسعة ترفض نظام الحكم وممارساته. إيران اليوم تراقب الصين وهي تتقرّب من الدول الخليجية العربية وتبعث برسالة الى طهران بأنّ المصالح الصينية تقتضي تعديل تلك الصفقة الاستراتيجية معها.

إيران اليوم خسرت الحماية الأوروبية والاندفاع الأوروبي لإبرام الصفقات النووية والإقليمية معها- فأوروبا نادمة وغاضبة ولم تعد جاهزة لخوض المعركة نيابة عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل هي اليوم خائفة من العدوان الإيراني غير المباشر على أراضيها. السبب بديهي وهو انخراط إيران في الحرب الأوكرانية ضد الدول الأوروبية ومع روسيا.

ما قدمته الصين هذا الأسبوع الى إيران تمثّل في رعاية اتفاقٍ مع السعودية نص على استئناف العلاقات بين الرياض وطهران، وإعادة فتح سفارتي البلدين، واحترام الجانبين سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما عام 2001. جاء ذلك في بيان سعودي - إيراني - صيني مشترك أكد أن لقاء يزمع عقده بين وزيري الخارجية السعودي والإيراني لتفعيل الخطوات الدبلوماسية، كما أكد أن البلدين اتفقا أيضاً على تفعيل الاتفاقية العامة للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتقنية والعلوم والثقافة والرياضة والشباب الموقّعة عام 1998- وهذا أمر له أهمية مميزة.

لم يأتِ الانخراط الصيني في بناء هذا الجسر بين الرياض وطهران كمفاجأة. ففي مقال بتاريخ 11-12-2022، بعنوان قمم الرياض مع الصين: آفاق الثقة الاستراتيجية والرؤيوية السعودية، كتبتُ أن القيادة الصينية تودّ أن تؤدي "دور الجسر" بين البلدين "بهدف تهدئة الأجواء" لأن "الصين لا تحب التوتر في العلاقات بين أصدقائها". كتبت أيضاً "أن القيادة الصينية تعتقد أن في وسع الصين أن تمارس دوراً مميّزاً وناجحاً في مسألة اليمن، ما سيكون مُرحّباً به سعودياً وخليجياً. إيران قد تقاوم، لكن مساحة النفوذ الصيني مع طهران لا يُستهان بها".

بكين ستستمر في مراقبة التقارب السعودي - الإيراني الذي أتى بعد قطيعة واشتباك اقليمي لسنوات عديدة، والذي من شأنه أن يؤثر في خريطة منطقة الشرق الأوسط. هذا الدور الصيني سيقلق واشنطن لأن النفوذ السياسي والاقتصادي للصين له أبعاد استراتيجية حتى وان كانت الولايات المتحدة واثقة من العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربية ثابتة بلا منافسة.

قد ترتاح واشنطن الى التقارب السعودي - الإيراني لأنها تفضّل التفاهم بين الدولتين بل لقد سبق وشجعته عندما عكفت إدارة بايدن على المفاوضات مع إيران في فيينا الى أن وصلت الى حائط مسدود واصطدمت بانخراط إيران في الحرب الأوكرانية بجانب روسيا. إسرائيل ستنزعج كثيراً لأنها راهنت على محور يضمها مع دول خليجية عربية في وجه طهران وكانت تأمل في أن تكون السعودية في الطليعة.

دخول الصين على سكة رعاية تفاهمات إقليمية بأهمية التفاهم السعودي - الإيراني إنما هو جزء من الثقة الاستراتيجية المتبادلة التي تحدّث عنها الرئيس شي جينبينغ في الرياض. إنها خطوة رئيسية في زيادة نفوذ الصين في الشرق الأوسط تماماً كما تصوّر وسعى الرئيس الصيني بدقةٍ ومثابرة وبثقة قائدٍ مرتاح مع وضعه داخلياً وعالمياً.