في وقت كانت الصين تحتفل فيه بدخولها الدبلوماسي الكبير الى الشرق الأوسط، من بوابة "اتفاق بكين" بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران، أطلّ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على الرأي العام، وهو يُحصي الأرباح التي حققتها الولايات المتحدة الأميركية من إعلان الرياض عزمها على شراء 121 طائرة "بوينغ" بصفقة تبلغ قيمتها 37 مليار دولار أميركي.
لم يكن موقف بلينكن يهدف، بطبيعة الحال، لا إلى الإعلان عن المكاسب الصناعيّة والعمّالية والماليّة لبلاده، ولا إلى التذكير بـ"براغماتيّة" الدبلوماسيّة الأميركيّة، فحسب بل شاء، في هذه اللحظة بالذات، إفهام من يعنيهم الأمر أنّ السعوديّة الواثقة بأمنها وباستقرارها، هي مصلحة استراتيجيّة للولايات المتحدة الأميركية.
وبهذا المعنى، فإنّ "اتفاق بكين" في حال وصل إلى أهدافه المعلنة والمضمرة، فهو يوفّر مصالح واشنطن.
ولم توفّر الدبلوماسية السعوديّة، منذ التوقيع على "اتفاق بكين"، جهدًا إلّا وبذلته، من أجل إفهام الجميع، بأنّ تجاوبها مع المبادرة الصينيّة لا يعني خروجها من التحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، لأنّها، بما أقدمت عليه، إنّما استوردت "بضاعة" لا يمكن أن تتوافر إلّا في بكين، على اعتبار أنّ واشنطن لا تستطيع أن تلعب دورًا في أيّ مصالحة سعوديّة مع إيران، كما أنّها لا تملك القدرات اللازمة لضمان حسن تنفيذ شروط هذه المصالحة.
ولم يعد خافيًا على أحد أنّ "بيت القصيد" في "اتفاق بكين" هو إنهاء الحرب في اليمن، بكل تداعياتها الأمنية والعسكرية والإعلامية والمالية والإقتصادية، فالمملكة العربيّة السعوديّة لا يمكنها أن تبقي استثماراتها الضخمة التي تنفقها، في سياق "رؤية 2030" رهينة أجوائها المفتوحة للصواريخ والدرونز "الحوثيّة"، وميزانيتها مهدورة على "المجهود العسكري"، ودبلوماسيّتها "مرهونة" للمواجهة.
ولا يشكّل الدخول الصيني القوي الى الشرق الأوسط أيّ مفاجأة للولايات المتحدة الأميركية، فلا اتفاقها الإستراتيجي مع إيران ملفًا سريًّا ولا "الإحتفاليّة" التي استقبلت بها الرياض زيارة الرئيس الصيني الأخيرة "أحجية"، ولا "السكون" الأميركي، حيال المصالح الأمنية والعسكريّة السعوديّة، من دون نتائج.
كلّ ذلك يعني أنّ الدعاية التي تقوم على تصوير "اتفاق بكين" كما لو كان هزيمة لواشنطن، فيها الكثير من المبالغة، لأنّ الإستراتيجيّين الأميركيّين يعرفون أكثر من غيرهم أنّ المملكة العربيّة السعودية ومعها دول مجلس التعاون الخليجي "أحكم" من أن تترك أمنها القومي فريسة للفراغ، كما أنّها أظهرت، في مناسبات عدّة ولا سيّما منذ بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، أنّها ليست في وارد "الإنحياز" لا الى الشرق ولا الى الغرب.
وقد جاءت صفقة الطائرات التي عقدتها الرياض مع واشنطن، لتظهر أنّ المملكة العربيّة السعوديّة، وإن كانت تقترب من الصين، إلّا أنّها لا تفكّر بالإضرار بالمصالح الأميركية.
انطلاقًا من هنا، فإنّ أيّ استشراف لتداعيات "اتفاق بكين" يجب أن يأخذ في الإعتبار أنّ الشرق الأوسط، في ظلّ تصادم الدول الكبرى في مجالاتها الحيويّة، لم يعد أرض مواجهة بديلة، بقدر ما أضحى، بفعل ما يحتضنه من ثروات ماليّة وطبيعيّة، أشبه بـ "واحة استثماريّة" حيث تتلاقى مصالح الصين التي أصبحت قائدة للشرق، في ضوء انهماك روسيا في حرب الإستنزاف الأوكرانيّة، ومصالح الغرب التي عزّزت الولايات المتحدة الأميركية قيادتها له.
وتجد الصين في الشرق الأوسط كلّ ما تحتاج إليه من موارد للطاقة، في حين تريده الولايات المتحدة الأميركية سوقًا مزدهرًا لدعم صناعاتها المتطوّرة والمتنوّعة التي لم تصل غريمتها على قيادة العالم الى مستوى تنافسي حقيقي، بعد.
وتحقيقًا لهذه الأهداف، تتلاقى المصالح الصينيّة والأميركية والسعوديّة والخليجيّة، في ترجمة مندرجات "اتفاق بكين" إلى وقائع سياسيّة وعسكريّة وأمنيّة واستراتيجيّة واقتصاديّة.
وعليه، فإنّ السعوديّة لا تفتّش فقط عن حلّ دائم للحرب في اليمن، بل لديها هواجسها الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني، وتتقاطع في النظرة الغربية الى "أذرع" إيران في المنطقة التي لا يمكن أن تدخل في مرحلة مستقرة فعلًا إذا لم يتم شق الطرق التي لا تزال تحول دون انخراط إسرائيل فيها.
وهنا، تحديدًا، تندرج انعكاسات "اتفاق بكين" على كلّ من لبنان وسوريا والفلسطينيّين، كفوالق متصلّة بالرقعة السعوديّة- الإيرانيّة، فإذا حصل استقرار في هذه الرقعة انسحب ذلك على الفوالق الثلاثة!
التعليقات