اليوم أصبح بالإمكان الحديث وبشكل مباشر عن سد الهوة الكبرى التي كانت تملأ الخليج العربي، فقد اتفقت السعودية الدولة القيادية في صناعة القرار على المستويين الاقليمى والدولي، وعبر وساطة صينية مع إيران التي يمكن القول إنها كانت تشكل أزمة كبرى في المنطقة قبل هذا الاتفاق، ولكن يبدو أن الأسئلة الاستراتيجية المحيطة بالدور الإيراني في المنطقة بدأت تتفكك خيوطها.

الصين التي جمعت الطرفين في أول عملية سياسية ذات قيمة استراتيجية تقدمها بكين للعالم الذي كان معتاداً على أن سعي الصين الدولي وخاصة في الشرق الأوسط هدفه بناء علاقات اقتصادية في الشرق الأوسط ولم يكن أحد يتحدث عن رغبة صينية نحو فعل أي تأثير سياسي، ولكن المفاجأة كانت أكبر مما كنا نعتقد، فالخطوة الصينية ستمكن الصين من العمل كقطب دولي يحصل على نفوذ سياسي متدرج في الأحداث الدولية استنادا إلى التحولات المرتقبة والاستعداد لبناء نظام عالمي جديد.

النفوذ الدبلوماسي الصيني قابل للتوسع بل مطلوب في المنطقة التي تتحدث عن تنسيق أميركي إسرائيلي كان وما زال يدرس الردود المحتملة على البرنامج الإيراني النووي، وهذا ما يطرح سؤالا مهما حول من أسعده خبر الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، ومن عارض هذا الاتفاق، الموقف الأميركي أمام منعطف حاسم أيضا يتطلب إعادة النظر في معادلات المنطقة، فالمملكة العربية السعودية حجر الزاوية في المنطقة ذهبت إلى مسار عقلاني يفضل المواءمة بدلا من المواجهة مع أحداث المنطقة من حولها.

هناك من سيغضب لأن هذا الاتفاق يتجه بالمنطقة نحو تقليل فرص العمل العسكري من أي طرف كان، كما أن هذا الاتفاق أربك الخارطة المحتملة التي يمكن القول إنها كانت ترسم للمنطقة، وهذا هو المطلوب، حيث ليس من مصلحة المنطقة أن تطلق فيها رصاصة واحدة على الضفة الخليجية، لأن الخسارة ليست عسكرية أو اقتصادية بل جيوسياسية خطيرة.

السعودية وإيران وعبر مسار اتسم بالهدوء والصبر الطويل تحاورا لمدة ليست بالقصيرة، وكان حوار الطرفين تتويجا للعقلانية التي توصلت إليها إيران في نهاية المطاف وخاصة في علاقاتها بجيرانها، فكما يبدو أن الفرصة الأكثر تأثيرا والتي ساهمت في تهيئة هذا الاتفاق للنجاح هي أن إيران وبعد أربعة عقود مضت قد استنفدت كل خططها الاستراتيجية واكتشفت أن المنطقة لا يمكن الإمساك بخيوطها عبر الطائفية أو التدخلات بالشؤون الداخلية لمحيطها.

إيران اكتشفت أن محيطها الجغرافي كان قد رحب باتفاقها النووي مع أميركا عندما تم توقيع خطة العمل المشتركة، كما أنه ثبت لدى إيران وبالدليل المتكرر الرغبة السعودية لخفض درجة الحرارة معها من أجل خلق منطقة هادئة مستقرة، فالرسالة السعودية تدور حول أمن المنطقة واستقرار دولها وفتح المجال للنمو والتطور، فالسعودية تكاد تكون هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك مشروعاً تنمويا يمكن أن يشترك كل الجيران في نجاحه وفوائده فهو مشروع يتيمز بالشمولية -خليجي عربي شرق أوسطي-.

النموذج السياسي السعودي الذي تعاملت به مع الاتفاق يعتمد بالدرجة الأولى على مقايضة المواجهة بالمواءمة مع الجانب الإيراني، وخاصة أن إيران تعلم أن السعودية ستكون بهذا المسار معارضة لأي عمل عسكري خارجي ضدها يمكنه أن يغير وجه المنطقة ويعيد تشكيل ملامحها لصالح أطراف بعيدة يمكنها الاستفادة من الحدث.

الصين الراعي الرسمي للاتفاق تعكس بشكل مباشر وغير مباشر موقفها المضاد دائماً لمعالجة أمراض المنطقة بالطرق العسكرية، لذلك فإن الظهور الصيني عبر هذه الاتفاقية يعزز دورها السياسي وصناعة التوازن الذي افتقدته المنطقة منذ تسعينات القرن الماضي، وأحدث فراغا كبيرا يمكن للصين أن تملأه اليوم من خلال إثبات أن التزاماتها السياسية للمنطقة ومشكلاتها لن تتعرض للتراجع أو النقض.

النموذج السعودي القائم على مقايضة المواجهة بالمواءمة يجب النظر إليه دوليا بكل انفتاح فهو متاح للمبادرات الإيجابية التي تعمل لصالح المنطقة واستقرارها، سواء تلك المبادرات القادمة من الغرب أو الشرق، وهذا ما يتطلب سياسيا من جميع الأطراف ألا يسمح بالمبالغة والتقليل من تجربة الالتزام السياسي بين دول المنطقة وأن اتفاقاتها قصيرة الأجل ولا تحض على الجدية في التزامتها.

سياسيا كل الدول يمكنها تغيير أهدافها الاستراتيجية نحو أهداف جديدة ومفيدة وخاصة أن تمام هذا الاتفاق سيحقق نتائج مهمة، فالحد من التوترات الإيرانية السعودية هدف يسعى إليه الجميع، والمنطقة لا تقيّم المساهمة الصينية ضمن صراع القوى الدولية لأن الشرق الأوسط أصبح بحاجة ماسة للاستقرار، بدلا من أن يكون طرفا في نزاع دولي يخلق المشكلات بشكل دوري ويعيد صناعتها.