أيها السيدات والسادة..

في رمضان، في هذا الشهر الكريم والفضيل والذي بدأت لياليه تسرع الخطى بأنه علينا أن نتذّكر ونذّكر بأننا حين نأكل ونشرب إن هناك أناسًا لا يأكلون ولا يشربون مما نأكل ونشرب، وإننا في النور وهناك أناس في الظلام، ونحن نفرح هناك أناس نسوا الفرح، هناك أناس موجوعون في صمت، وإن هناك أناس يعيشون الجوع الصامت، والصمت الجائع، أناس مثلنا، عندهم معدة ولكن ليس لديهم ما يسد هذه المعدة، والأدهى حين نجد أناسًا افتقدوا الأمل، او ليس لديهم أمل من الأساس، لم يبقَ لدى الواحد منهم سوى إيمانه بأنه لا يزال إنسانًا، وكم هي مأساة حين نفتش عن الانسان في الانسان، وفي هذا السياق نتذكر ونذّكر ما قاله الفيلسوف اليوناني ديوجين حينما سئل: ما يصنع بمصباحة الذي كان يدور به في وضح النهار، فقال: أفتش عن إنسان..!

الإنسان الذي نفتش عنه اليوم هو الذي لا يعرف للكذب عنوانًا، وهو ذلك الذي يحمل هموم الناس في فؤاده، هو الذي يدخل السرور على القلوب الحزينة او المنكسرة، هو الذي عندما يفعل عملاً خيريًا يعمله بصمت وبدافع الايمان بهذا العمل، وليس من باب الدعاية والبهرجة والوجاهة والصور والحواشي، هو الذي يخرج الصدقة ولا يمّن على أحد، هو الذي يغيث المحتاج، ويطعم المسكين، ويواسي المكلوم، ولا يستثمر في معاناة الناس، وايضًا هو الذي لا يعطي للعقل إجازة، ولا يجعل مكان الضمير شاغرًا، ولا النوايا الحسنة تحت الركام، ولا يضع في قلبه مساحة للحقد والكره، ولا يدفع الى افتقاد المحبة التي بافتقادها كما قال الشاعر محمود درويش «نخاف من الغد، لأننا سنفتقد الإنسانية»، الإنسانية التي نحن اليوم بحاجة الى إثبات حضورها في هذا الزمن في كل فعل وفي كل شأن، وهو الزمن الذي قالت عنه الأديبة أحلام مستنغانمي «على قدر من الوحشية»، ولا ترى فيه شرفًا أكبر من حرص كل منا على أن يكون أكثر انسانية من أعدائه.

ربما من المنطلق المذكور وبدافع إثبات أن المعاني والقيم الإنسانية لازال لها حضور في واقعنا الراهن، وإن ما شهدناه ونشهده وتابعناه ونتابعه من وقائع وأحداث على مستوى العالم والتي ضربت و تضرب كل المعاني والقيم الإنسانية في الصميم يجعل الحاجة الى التذكير دومًا بهذه المعاني والقيم، وربما على هذا الأساس جاء التوافق على تخصيص يوم عالمي للأخوة الإنسانية احتُفل به لأول مرة في 4 فبراير 2021، مع ملاحظة إن ذلك جاء باقتراح من البحرين والسعودية ودولة الامارات ومصر وذلك «تخليدًا لذكرى توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية» التي وقّعت في أبوظبي في 4 فبراير 2019 والتي حملت رسالة تضامن إنساني تدعو الى حشد الجهود المشتركة لمواجهة التعصب والتصدي لخطابات الفتن والكراهية، ونشر ثقافة التسامح والسلام وتهيئة البيئات المناسبة التي تُعلي القيم الإنسانية على كافة الأصعدة وطنيًا ووطنيًا وعالميًا، ولا أعلم كيف مرّت علينا هذه المناسبة هذا العام مرور الكرام..؟!

هناك الكثير مما كتب وقيل في الإنسانية، لا بأس بعيّنة منها، في كتاب عنوانه «كيف تصيح إنسانًا» يناقش مؤلفه د. شريف عرفة مفهوم أن الإنسان منذ خلقه يحاول أن يجد معني لحياته ويرى أن هناك ما يشبه الإجماع في هذا العالم على أن التحلى بالإنسانية يحقق هذا الهدف فهو يعني أن تكون شخصًا «جيدًا»، وأن تؤمن بوجود «جوهر إنساني» بداخلك ليكون الأمر أكبر وأعمق من النظرة المادية للأمور، أما جورج برنارد شو فهو يرى أن الإنسانية لتكون سعيدة منذ زمن لو أن الناس استخدموا عبقريتهم في عدم ارتكاب الحماقات بدل أن يشتغلوا بإصلاح حماقات أخرى.

أما ألبرت شفايترز فهو القائل «الإنسانية هي ألا يتم التضحية بإنسان في سبيل غاية».. ذلك كلام يستحق التمعن لمن شاء أن يتذكر او يتفكر في الحال الراهن للإنسانية..!

الإنسانية نحتاج الى أن نبرهن عليها في كل وقت، لذا فتشوا عن إنسانيتكم في هذا الزمن الذي تتسارع فيه التغييرات في القيم الإنسانية، زمن تتزاحم فيه المتغيرات الآنية والسريعة والمبتذلة والوحشية، واعملوا على ما يعيد او يعطي للإنسانية معانيها، ولا تجعلوا الإنسانية وكأنها حلم في هذا الزمان، وانبذوا من يريد أن يجعل الإنسانية خطيئة، والله من وراء القصد، وهو الهادي الى سواء السبيل..

ـ2ـ

«نفتش دائمًا عن الإنسان فب الإنسان ونبنيه»..

كلام جميل يستحق التأمل، هو من جملة وصايا الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات حاكم دبي فى كتابه «قصتى»، الرجل يركز على الإنسان والإنسانية ويصل الى قناعة بأن صناعة القادة هي التي تبني مستقبلاً، والبناء المقصود برأيه هو الذي يصنع القائد، والقائد الحقيقي هو من يصنع قادة، والمؤسسة الحقيقية الفاعلة هي التي تخرج قادة، ويؤكد بأن ضمان استمرارية التفوق مرهون بجهود صنع قيادات، قيادات تفتح آفاقًا أكثر، وتحمل طاقات أكبر، وتنقل المؤسسات لقمم جديدة، وإن صنع القيادات سر لا يفهمه إلا رجال تغلبوا على تضخم الأنا والذات، وفهموا أن أعظم إنجاز يصنعونه هو بناء البشر وليس الحجر، ويرى أن «من أكبر تحدياتنا الإدارية غياب التخطيط، وأن الكثير من المسؤولين يعيشون وظيفتهم يومًا بيوم، لا ينظرون لأبعد من أسبوع او شهر، يسيرون بغير هدى، ولا يهم أين يصلون، لأنهم لن يصلوا الى شيء له قيمة»، كما وجدناه وهو يدعو دعوة صريحة تحمل الكثير من المعانى والتفسيرات بقوله: «لا تمجدوا الإجراءات، ولا تقدسوا القوانين، ولا تعتقدوا أن الأنظمة أهم من البشر، تذكروا أن الغاية من الإجراءات والأنظمة والقوانين هي خدمة البشر، الناس والإنسانية»..

كلام يستحق التوقف والتأمل في ظل واقع قائم على قدر لا يستهان به من الممارسات والحالات والمحاولات والسياسات والمسافات والتخبطات التي تجعل الإنسانية مشوّهة او فاقدة القيمة والمعنى، او لنقل واقع تغادر فيه القيم وتزداد فيه الكوارث الإنسانية..!

ـ3ـ

هل من معنى، هل من قيمة حين يتبارى البعض في إظهار إنسانيتهم في شهر رمضان دون غيره؟ وبعدها يضعونها على الرفوف، وكأن هذا الشهر هو وحده القوة الدافعة للعمل الإنساني، والسلوك الإنساني، وزرع بذور الإنسانية، ثم تنتهي صلاحيتها، نتخلى عنها او لا نتعامل معها كما يجب، أليست هذه إنسانية خادعة، مصطنعة، عليلة، فاقدة جوهرها، إنسانية مناسباتية واستعلائية زائفة يتجمل بها البعض كل ما دعت الحاجة، هذه إنسانية لا تمت الى الإنسانية بصلة، وهذا يذكرنا بما قاله محمود درويش «أنا خائف من الغد، خائف أن نفتقد الإنسانية».. !

هل الحديث عن الإنسانية يذكّركم بشيء..؟!