هاتفني الأستاذ محمد الخميسي مقدم برنامج الراحل قبل ما يقرب من شهر على بداية شهر رمضان وعرض عليّ عدة أسماء لمن سيكرمهم في هذا الموسم في برنامج الراحل، قلت له للأسف الشديد معظم الأسماء أعرفها وأكن لها كل التقدير والاحترام لكن معرفتي بهم عابرة لا تضيف أي قيمة لما سيقوله غيري، وقد ثبت لي ذلك بعد أن تابعت حلقات البرنامج طيلة الشهر الكريم.

غير أن شخصية لفتت نظري وتمنيت على الأخ محمد أن أشارك في تقريظها

مع أنني لم ألتق بها لكن ما سمعته وقرأته عنها يستحق تحقيق هذه الأمنية، هذه الشخصية هي فضيلة الشيخ محمد بن جبير - رحمه الله.

حالت ظروف بيني وبين تحقيق هذه الأمنية ليس للأخ محمد دخل فيها.

من بين من شاركوا في تعداد فضائل الشيخ ابن جبير الأخ الفاضل محمد الشنقيطي وقد وصفه بأنه ذو نظرة بعيده وأفق واسع، هذه الصفة ألحت عليّ بإعداد هذه النبذة.

لم التق بالمرحوم لاختلاف المهنة وجهة العمل لكنني سمعت عنه الكثير وكل مرة يبدو لي أن المرحوم ذو نزعة تنويرية توفرت له من خلال دراسته لعلوم الشرع عزَّزها ما يتمتع به من صفات شخصية تؤهله لمكانة عند علماء القيادة. ومن لديه هذه الصفات لا بد أن يكون بعيد النظرة واسع الأفق كما قال الأخ الشنقيطي.

سمعت وقرأت عن الشيخ من ثلاثة مصادر أصلية:

الأول: حديث مع معالي الأخ الدكتور محمد الجار الله الذي كان من أوائل من خدموا في مجلس الشوري في تشكيلته الأولى، وحديث الدكتور أبوفهد عن المرحوم لا يملّ نظراً لما يظهر في نبرته من حماسة تستمد جذورها من إعجاب واضح بشخصية الفقيد.

ينوّه أبو فهد بمقدرة الشيخ ابن جبير القيادية التي تتجلى في أسلوب إدارته للجلسات، وحكمته البالغة في تقريب وجهات النظر، واستيعابه لما تكتظ به أعمال المجلس من وثائق. ويضيف الدكتور محمد الجار الله سمة أخرى يتحلى بها الفقيد وهي روحه المرحة وحبه للتندر وهي صفة تستهويني يجمع علماء القيادة على أهميتها للقائد الناجح ومن يتابع ما تنشره مجلة هارفرد بزنس ريفيو عن هذا الموضوع يلحظ ذلك.

المصدر الثاني: قلت إن المرحوم يتمتع ببعد النظر وسعة الأفق وهذا ينقلني إليَّ وجهة نظر سمعتها أكثر من مرة من معالي المرحوم الوزير هشام ناظر عندما كنت محافظاً للمملكة في منظمة أوبك، كنت بسبب هذه الوظيفة اقترب من الأستاذ هشام ويأخذنا الحديث إلى آفاق تتعدى حدود العمل، كنت أقول للأستاذ هشام إن ما تحتاجه الأمة في أي مكان وزمان هو الخروج من ربقة النصوص ما أمكن، إذ إن هذه الصفة قد تعرقل تقدم المجتمع، وافقني الأستاذ هشام وقال إن المرحوم ابن جبير -وكان معجباً به- يتساءل عند تفسيره الآية 69 من سورة النحل {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ}، ويقول هل العسل الذي ورد في الآية هو العسل الذي بين أيدينا الآن؟

تشعب النقاش وتمنيت لو أن ابن جبير -رحمه الله - موجود لكي أسأله وهل الربا المحرم بالدليل القاطع يشمل بعض أنواع الفائدة التي تتقاضاها البنوك في الوقت الحاضر على نوع معين من القروض؟ على سبيل المثال: عندما تتجمع مدخرات متوسطي الحال عند مؤسسة مالية تقرضها لعملائها من رجال الأعمال الموسرين!

الخلاصة إن ما نقله الأستاذ هشام يدل على مرونة في التفكير أصبح الناس يعبرون عنه بالتفكير من خارج الصندوق، ولا شك أن ابن جبير في طليعة هذا النوع من الناس.

المصدر الثالث: قلت إن المرحوم صاحب ريادة في علم القيادة وقد أشرت إليها بشكل عابر في مقال كان عنوانه: «حذار أن يكون التغيير في الأفراد هدفاً في حد ذاته».

لكنني غيّرت العنوان بناءً على طلب من رئيس التحرير إلى: استصلاح الرجال: أسلوب الملك عبدالعزيز في الإدارة.

نشرت المقال في جريدة الجزيرة بتاريخ 2 ديسمبر 2019 وهو جملة نصائح مني لمن يتسنَّم منصباً قيادياً.

من أهم ما تعرضت له في المقال نقد الآفة التي تسود في بعض المجتمعات وهي أن يكون الهاجس الأول للمسؤول الذي يتقلد منصباً جديداً هو التخلص من بعض الموظفين الذين ورثهم من سابقه (دون أن يجربهم أو يتأكد من إخلاصهم ونزاهتهم )، واستبدالهم بأفراد كل ما لديهم من مؤهلات هو علاقتهم الشخصية بالمسؤول، كان المصدر الذي استندت إليه هو كتاب وجدته في مطار الأمير نايف الدولي في القصيم عن الملك عبدالعزيز صدر على نفقة أمير المنطقة وفيه اقتباس من مصطلح لابن جبير أعيده للذاكرة كما قاله - رحمه الله:

«إن الملك عبدالعزيز يتميز بصفة قلما توجد بالعالم وهي ميزة استصلاح الرجال» والمقصود بذلك أن من كانوا يحاربون في صف مناوئي الملك المؤسس صاروا من أكثر الناس إخلاصاً له. والحقيقة إنني مدين لهذا الرجل الطليعي في تفكيره فلقد مررت بهذه التجربة عندما عينت مديراً عاماً لمنظمة دوليه هي صندوق أوبك OFID في فينا ووجدت أمامي ثلاثة من جنسيات غير سعودية كانوا يمثِّلون رأس الحربة ورثتهم عن سلفي فكانوا خير عون لي فيما أحدثناه من تغيير في تلك المنظمة التي أخذت فيما بعد مكانها اللائق بين مؤسسات التنمية في العالم، وأنا في هذا السياق أحمد للشيخ ابن جبير فضله عندما ناديت بشعار: «حذار أن يكون التغيير في الأفراد هدفاً في حد ذاته».

رحم الله الشيخ الفاضل محمد ابن جبير وجزاه الله خيراً على كل ما قدمه من خدمات لوطنه وليت كل من يؤمن بشعار «كل بدعة ضلاله» على إطلاقه يتأسى بسيرته العطرة ومنهجه الطليعي في التفكير والتطبيق.