إن السبب الذي طفا على السطح وأدى إلى احتدام الخلاف بين قائدي الانقلاب البرهان وحميدتي، يتمحور حول دمج قوات الدعم السريع التابعة للأخير في الجيش السودانى، لكن ذلك لا يُخفي أسبابًا أخرى كامنة ودافعة إلى نشوب المعارك، تتصل بعدم قبول قادة الانقلاب مطالب القوى المدنية، المتمثلة في تشكيل جيش وطني غير مسيس، ولا يتدخل في الشؤون المدنية، وأن يقبل بالرقابة الحكومية عليه. والأكثر أهمية ماقاله الكاتب عمر كوش بموقع «alaraby» الجديد، إخضاع احتكارات القادة العسكريين في قطاعات الزراعة والتجارة وقطاعات أخرى لسلطة الدولة، واستكمال التحقيقات التي انقطعت منذ انقلاب 2021 بشأن العدالة الانتقالية، ومحاكمة المسؤلين عن قتل المتظاهرين السلميين، فضلاً عن المطالب بإجراء إصلاحات واسعة في قطاع الأمن والقضاء. من دون شك، الخاسر الوحيد في هذه الحرب الدائرة هو الشعب السودانى، لأنها تبدد الآمال في تخلي العسكر عن السلطة، وتسليمها للمدنيين، حسب الاتفاق الإطاري الذي وقعته الأطراف في ديسمبر الماضي، وجاءت فيما كان معظم السودانيين ينتظرون التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي لنقل السلطة من العسكريين إلى المدنيين، والذي كان من المفترض توقيعه في السادس من إبريل الجاري، لكن خلافات الجيش وقوات الدعم السريع حول عملية الإصلاح الأمني والعسكري والدمج لتكوين جيش موحد، حالت دون ذلك، وبالتالي فشلت الأطراف السودانية مرة أخرى في التوقيع على إتفاق يقود الى نقل السلطة من قبضة العسكر للمدنيين،وإنهاء الانقلاب على المدنيين، وذلك على الرغم من المفاوضات الشاقة التي جريت بين الطرفين، وأشرفت عليها أطراف دولية وأممية، بغية التوصل إلى الاتفاق المنشود. يرى سودانيون كثر أن الغاية من نشوب الحرب على السلطة في السودان هي تدمير العملية السياسية الرامية إلى نقل السلطة للمدنيين، ووضع حدّ نهائي لمعاناة السودانيين المستمرة منذ إطاحة نظام عمر البشير في إبريل 2019، والتي فاقمها الانقلاب العسكري الذي قاده البرهان وحميدتي في اكتوبر 2021، وأنهى مجلس السيادة المشترك، وحل الحكومة برئاسة عبدالله حمدوك، وعلق العمل بالوثيقة الدستورية، وفرض حالة الطوارئ في البلاد. ويظهر واقع السودان أنه تحول في السنوات الأخيرة إلى ساحة تنافس وصراع بين قوى ومحاور إقليمية ودولية، الأمر الذي زاد من تفاقم الخلافات بين الأطراف السودانيه، خصوصًا زيادة التدخلات الإقليمية والدولية، التي تريد تطويع الأوضاع في السودان، من خلال الوصول إلى تسويات، تخدم مصالحها وأجندتها، ولا تكترث بمصالح عامة السودانيين. ثمة قراءة ترى أن كلا الطرفين كانا جزءًا من النظام السابق، وشركاء في الفساد الذي جوّع السودانيين لسنوات، ولاشك أن الأرضية الحالية تسمح بتطور الصراع على السلطة بين قطبي المؤسسة العسكرية إلى صدام مسلح كالذي نشهده اليوم. لكن رد الأحداث الخطيرة الحالية إلى كونها صراعا على سلطة بين أطراف سودانية داخلية، هو تسطيح للمشكلة، وتركيز على أحد مسبباتها، وإغفال عوامل أخرى ربما تكون قد أدت دورًا حاسمًا. فأقطاب المؤسسة العسكرية السودانيه كان لهم نشاط إقليمي ودولي ملحوظ، وفي الوقت الذي يبدو من الصعب تحديد امتدادات وهوامش علاقة العسكريين السودانيين بالقوى المؤثرة في الإقليم والعالم، يبدو أن المدة التي قضاها هؤلاء في السلطة منذ إزاحة البشير- أو ربما قبل ذلك- سمحت لهم بفتح قنوات اتصال مع الجميع، لكن تغذية الخلافات إلى حد وصولها إلى مواجهات عسكرية، قد تتحول إلى حرب أهلية عنيفة لن تكون في مصلحة مصر أو روسيا والصين، فحرب كهذه سيكون لها تأثير كبير على النشاط الروسي والصيني لا في السودان فحسب، بل في كل المنطقة المحيطة، ويعد الأمر أكثر خطورة بالنسبة لمصر التي ارتبط أمنها الوطني بالسودان تاريخيا.
أين يتخذ مجال اشتغال المؤسسة العسكرية في الوطن العربي؟ هل يفترض في الجيش ألا يتجاوز الثكنات ومراقبة الحدود؟ أم يمكنه الامتداد باتجاه الممارسات السياسية والتدخل في تدبير الشأن العام؟ الإجابة على هذه الأسئلة وهي محور حديثنا، يرى استاذ علم الاجتماع المغربي عبدالرحيم العطري أن الداعي إلى الاستفهام بشأن آثار الجيش وتفرعاته الواقعية هو ما نعيشه من التباس وتداخل في الاختصاصات في الزمن العربي، حيث «التناص السلطوي» على أشده مابين المدني والعسكري، وخصوصا في عز الانتقالات، التي تعول عليها الجماهير على التحرر من «تغول» سلطة ما، فإذا بها تقع «رهينة» مجددًا لسلطة أخرى، فيصير المؤقت دائما، والالتباس نصا دالا ومؤثرا. إن الوقائع المعلنة توهمنا أحيانا بأن هناك الجيش مستقل عن السلطة والنظام السياسي، وأنه لا يتدخل في الجاري من الأحداث، وأنه مختص بالدفاع عن حوزة الوطن لا غير. ولكن باعتماد قراءة تاريخية لمسار المؤسسة العسكرية يتضح بجلاء، بأنها ليست «مؤسسة بكماء»، وإنما هي مؤسسة فاعلة وصانعة للقرار أو على الأقل مؤثرة فيه. فالجيوش يطل في كل نظام، بمثابة قطب الرحى، التي يتم الارتكان إليها، وطلب خدماتها في اللحظات العصيبة. لم يكتف الجيش في البلاد العربية، بدوره الطبيعي المتمثل في حماية السيادة الوطني الترابية، بل انتقل بكل ثقله الرمزي والمادي من حدود الوطن إلى حدود السياسة والصراع على السلطة.ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يحدث الآن في السودان من صراع العسكر على السلطة والنفوذ، والمستفيد من ذلك، الإسلام السياسي وفي مقدمتهم الإخوان المسلمين وفلول النظام السابق.
تبقى في النهاية قضية على جانب كبير من الأهمية والخطورة، وهي وضع الجيوش العربية في سياق نظام التعددية السياسية في العالم العربي. في كتابه «البحث عن العدل.. السلطة والقانون والحرية» الصادر في عام 2000، يقول د. محمد نور فرحات، لقد لعبت الجيوش العربية منذ الخمسينات وحتى الآن أخطر الأدوار في الحركة السياسية الرسمية في العالم العربي، وكانت الانقلابات العسكرية على الحكومات المدنية العاجزة عن قيادة مواجهة التحديات ظاهرة متكررة في أغلب البلاد العربية. والمطالع للخريطة السياسية في العالم العربي اليوم سرعان ما سيلحظ أن المؤسسات العسكرية العربية تباشر الحكم والسياسة إما بطريقة سافرة في شكل حكم عسكري معلن، وإما بطريقة غير سافرة من خلال موقعها المؤثر في قلب النظام السياسي العام. إذن فالحقيقة التي لا مجال للمجادلة فيها أن المؤسسات العسكرية العربية قد أحتلت موقعها طوعا أو كرها في قلب النظام السياسي العربي. كثيرة هي الانقلابات العسكرية في البلاد العربية، ففي عام 1949 حدث ثلاثة انقلابات عسكرية في سوريا وحدها. وخلال الفترة الممتدة من من سنة 1952 لغاية سنة 1986، حدث حوالي 34 انقلابا عسكريا ناجحا في العالم العربي،تنضاف إليها «انقلابات بيضاء» بكل من السودان 1986 وتونس سنة 1987 وموريتانيا سنة 2005. كل هذا يؤكد أن الجيش لم يبق على خط الحياد، وأنه كان رقما أساسا في معادلات النسق العربي، وأن النتيجة كانت تحسم لصالحه، في كل جولات الصراع حول التحكم في مفاصل السلطة والتدبير، وأنه على حد قول العطري،لم يقبل بتسييح دوره داخل حدود مرسومه ضمن أعرق الديمقراطيات. فقد بدا واضحا منذ بداية التكريس القانوني والتنظيمي لمؤسسة الجيش، وأساسا بالنسبة لنخبه المسيرة، أن مجال الاشتغال الخاص بدوائره وامتداداته المجتمعية يتجاوز حدود الثكنات والقيادات العسكرية إلى مجموع النسق الساسي، ما يدل على حقيقة السلط التي يحوزها الجيش ومكانته في تدبير وصنع القرار في البلاد العربية.في تغريدة له قال الكاتب والأكاديمي تركي الحمد: «مفسدات السياسة كثيرة، فدروبها وعرة،ودهاليزها ضيقة، ومتاهاتها محيرة. غير أن أمرين هما الأكثر فسادًا، إذا دخل أحدهما أوكلاهما أرضا، قلباها رأسًا على عقب، وجعل عاليها دون قاعها، ألا هما الدين حين يسيس، والعسكر حين يتحكمون بمفاتيح القرار في الدولة والمجتمع».
التعليقات