ليس سهلاً إحداث خرق في الاستعصاء الداخلي اللبناني لإنهاء الشغور الرئاسي وعقد تسوية تنتشل البلاد من مستنقع الانهيار الذي تغرق فيه منذ سنوات، لاسيما بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون قبل سبعة أشهر، ودخول لبنان في فراغ رئاسي. وحتى لو أعلنت قوى المعارضة و"التيار الوطني الحر" رسمياً ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور للرئاسة، فإنّ الأمور تبدو أكثر تعقيداً في عقد جلسة تشريعية مرهونة بالدعوة إليها من رئيس مجلس النواب نبيه بري، المتشبث باسم سليمان فرنجية مع "حزب الله" مرشحاً للممانعة. فإذا لم تكن الحسابات مؤاتية لإيصال هذا الأخير إلى الموقع الأول، فإن لا جلسة انتخابية، وإذا عُقدت بفعل الضغوط الدولية، لتكون الجلسة الـ12 خلال سبعة أشهر، فإنّ تعطيل النصاب سيكون عنوانها، إذا تبيّن أنّ حظوظ أزعور مرتفعة بالتصويت.

الوقائع اللبنانية وامتداداتها الإقليمية والدولية لا تشير إلى أنّ إنجاز الاستحقاق الرئاسي بات قاب قوسين للتحقّق، على الرغم من الحراك السياسي الداخلي، خصوصاً في الساحة المسيحية، والتقاء "القوات اللبنانية" والكتائب" و"التيار الوطني الحر" على ترشيح أزعور للرئاسة، ولا حتى الزيارة التي قام بها البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى باريس أخيراً، والتي بحثت الملف الرئاسي، وتُوّجت بلقائه الرئيس إيمانويل ماكرون، ولا حتى التلويح الأميركي بعقوبات على المعطّلين، ذلك أنّ الاستعصاءات الداخلية لا تزال تكربج أي تفاهمات للوصول إلى تسوية الانتخاب، في غياب رافعة خارجية تسهّل التوافق، إن كان بالضغط أو باتفاقات تفرض مساراً محدّداً على المسؤولين اللبنانيين.

يظهر أنّ أحد الأسباب الرئيسية التي تقف في وجه التسوية الرئاسية هو تمسّك "الثنائي الشيعي"، خصوصاً "حزب الله"، بترشيح فرنجية، فيما دعوته إلى الحوار تدور حول اسمه للتوافق على مجموعة تفاهمات مرتبطة به. فعلى الرغم من توصّل خصوم الحزب مبدئياً إلى ترشيح أزعور، اعتبر "الثنائي الشيعي" أنّ الأمر مناورة وتحدٍ ومواجهة، ولن تُفتح أبواب مجلس النواب لإنجاز الاستحقاق. ويتبيّن وفق الأجواء والمواقف، أنّ "حزب الله" ليس بصدد التخلّي عن فرنجية، لا بل هو متمسّك به إلى حدّ الذهاب نحو تعطيل مفتوح يؤبّد الفراغ، إلى حين توفّر ظروف داخلية لانتخاب مرشحه. بما يذكّر بتجربة المرحلة التي سبقت انتخاب ميشال عون بين 2014 و2016، وحينها كان فرنجية مرشحاً، لكنه غير معتمد من الحزب الذي فرض عون في النهاية كمرشح أوحد وانتُخب بما يشبه التعيين، بعد التفاف معظم الأطراف حوله بما فيها "القوات اللبنانية" وتيار "المستقبل" برئاسة سعد الحريري.

يستند "حزب الله" إلى ما يعتبره عناصر قوة داخلية وإقليمية تسمح له بإيصال فرنجية إلى الرئاسة ولو بعد حين، حتى ولو اتفق المسيحيون على الاسم الآخر. لكن عناصر القوة لدى الحزب معروفة بفائض قوته العسكرية وقدرته على التحكّم بالقرار، وتماسك كتلته الطائفية في الهيمنة على البلاد والتغطية الإيرانية له، إلى الدعم السوري بعد عودة دمشق إلى جامعة الدول العربية. ولذلك، هو يراهن على تغييرات إقليمية ودولية تصبّ في مصلحته. كذلك يستقوي بقدرة حليفه في الإمساك بمجلس النواب، ذلك أنّ بري الذي أعلن بعد الحديث عن عقوبات أميركية محتملة، أنّ "أبواب مجلس النواب اللبناني غير موصدة ولم تكن موصدة اصلاً"، لكنه لم يحدّد جلسة انتخاب للرئاسة، معتبراً أنّ لا إعلان من المعارضة عن مرشح جدّي، وأنّ لا مهلة ملزمة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي.

نقطة ثانية يستند إليها الحزب، وهي رهانه على عدم قدرة المعارضة مع "التيار الوطني الحر" على تأمين 65 صوتأ في مجلس النواب، وهو مقتنع أنّ عدداً من النواب العونيين لن يصوّتوا لأزعور بل لفرنجية. أما النقطة الأهم، فهي متعلقة بالبطريرك الماروني بشارة الراعي، فبالنسبة للحزب ليس من مصلحة الراعي أن يتحوّل إلى طرف في تأييد مرشح ضدّ آخر، فإذا تبنّى خيار أزعور يكون قد اختار المواجهة، وهو ما يُضعف حجته. الأمر الآخر المهمّ، هو أنّ البطريرك لم ينتزع موقفاً فرنسياً مؤيّداً للمرشح أزعور، إذ أعلنت الرئاسة الفرنسية أنّ "ماكرون اكّد خلال استقباله في قصر الإليزيه البطريرك الراعي دعمه "الجهود" التي يبذلها رأس الكنيسة المارونية لإخراج لبنان من "المأزق السياسي"، مطالباً كلّ القوى في البلد الغارق في الأزمات، بانتخاب رئيس للجمهورية "من دون تأخير". ويبدو من خلال هذا الموقف، أنّ فرنسا لم تدخل في لعبة الاسماء، وهذا يعني بالنسبة إلى الحزب أنّها لم تتخّل عن مقايضتها، أي عن المرشح فرنجية.

السيناريوات المتوقعة للاستحقاق الرئاسي في المرحلة المقبلة، خصوصاً مع تمسّك "حزب الله" بفرنجية، وهو ليس في وارد التراجع عنه، كما كان مع ميشال عون تماماً قبل 2016 ضدّ فرنجية نفسه، تبدأ باستمرار التعطيل وعدم عقد جلسة حتى مع تبنّي المعارضة لجهاد أزعور، إلّا في حال تأكّد "الثنائي الشيعي" أنّه لن يحصل مرشحها على 65 صوتأً، وهذا يعني أنّ الجلسة قد تُعقد في حال تبيّن أنّ سليمان فرنجية سيحوز على أكثرية الأصوات. وقد تُعقد جلسة انتخابية بفعل الضغوط، لكنها ستُواجه بتعطيل النصاب أيضاً، إذا تبيّن أنّ المعارضة تمكنت من حشد أصوات كافية من المكونات الأخرى الطائفية لانتخاب مرشحها.

يتضح من التطورات المتعلقة باستحقاق الرئاسة، أنّه لا يمكن إنجاز الانتخاب من دون مظلّة عربية وإقليمية. فالعوامل الداخلية تتقاطع مع أبعاد إقليمية ودولية، بصرف النظر عن تبنّي مرشح من هذا الطرف أو ذاك. الوقائع السياسية الداخلية تشير إلى أنّ "حزب الله" يعتبر مع حلفائه الداعمين لفرنجية، أنّ التطورات الإقليمية والمسارات المرتبطة بها، من الاتفاق السعودي- الإيراني، إلى عودة النظام السوري للحضن العربي، تصبّ كلها في مصلحته لبنانياً، ولا بدّ من أن ينعكس ذلك خارجياً بتسوية أو صفقة تؤدي إلى انتخاب فرنجية رئيساً. وهو يستند أيضاً إلى التغطية الفرنسية، مراهناً على أنّ باريس لن تغيّر موقفها، فيما الانفتاح العربي على إيران وسوريا سيدفعها أكثر إلى السير بدعم فرنجية.

انتخاب رئيس الجمهورية سيبقى معلّقاً، فحتى تبنّي أزعور يحتاج إلى ترتيبات داخلية كثيرة على مقلب المعارضة و"التيار الوطني الحر"، ومعها تأمين العدد الكافي من الأصوات من النواب السنّة و"اللقاء الديموقراطي" والمستقلّين. الأمر يحتاج أيضاً إلى غطاء إقليمي ودولي، باعتبار أنّ الاستحقاق مرتبط بمسارات التسوية. وحتى الآن لا مؤشرات خارجية تعطي دفعاً للاستحقاق، وفي الوقت نفسه لا ضغوط قادرة على فرض وضع جديد على "حزب الله" أو تغيير مقاربته، بما يعني بقاء سليمان فرنجية مرشحاً أوحد مع استمرار الفراغ.