بني البشر يفخرون بما يصلون إليه ويحققونه، أو ما حققه اسلافهم، سواء كان ذلك علماً، أو جاهاً، أو مالاً، أو فعل خير وسلوكا حسنا، وهذه جبلة راسخة، سادت عبر التاريخ الإنساني، وما قبله، بل بعض منهم اقتتلوا لأجله، واهلكوا البشر، واحرقوا الشجر، وعند العرب تلاحا الشعراء في إظهار ذلك، وتبارزوا، فقد كانوا الصوت المجلجل، الذي به يرسلون تفاخرهم إلى أكبر عدد ممكن من معاصريهم، ليبقى خالداً سنين عديدة، وحتى يحققوا ذلك يقربونهم، ويغدقون عليهم الأموال، وقد فخر حسان بن ثابت بأجداده من الخزرج، كما افتخر الفرزدق بآبائه من تميم، ومثله فعل عمرو بن كلثوم وفخره بقبيلته تغلب، وغيرهم كثير.

لكن الشعوب أيضاً، وليس الأفراد فقط، تتفاخر فيما بينها، ومن ذلك التفاخر بالعراقة والأقدمية في الحضارة على بني البشر، وقد سجل لنا التاريخ القديم والحديث نماذج كثيرة من ذلك، ولعل تاريخ هيرودس من أقدم الكتب والمحفوظات التي شملت على مثل ذلك التفاخر، بغض النظر عن صدقه فيما يقول وممالآته لبني جنسه، وحديثه الطويل عنهم، وإظهاره لغلبتهم على معاصريهم من الأقوام الأخرى.

عاش هيرودس في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، أو نحو ذلك، وكانت الحضارات القائمة والبارزة في عصره، ومحيطه الجغرافي الشرق أوسطي، الحضارة الآشورية، والأكادية، والمصرية، وحضارة قومه اليونانيين الذين يحاول إبرازهم في ماضيهم وحاضرهم، مقللاً من الشعوب الأخرى في بعض المواقع من الكتاب، ومنصفاً في البعض الآخر.

ذكر في مواضع مختلفة أن الادعاء بالعراقة، وأصل البشرية، ومنبع الحضارة، كان قائما، وذكر الآشوريين والبابليين، والفرس، وقد طرح ما أمكنه طرحه حول ذلك بشكل مقتضب، ففي حديثه عن مصر، روى أن المصريين يرون أنهم، أعرق بني البشر، وأقدمهم حضارة، وأنه لا يباريهم في ذلك أحد من الشعوب، حتى جاء زمن فرعون مصر بسماتيك الاول، ان صح لنا أن نطلق اسم فرعون، وهذا لفظ لم تظهر الآثار له أثرا، وبسماتك تعني خالط المشارب، واسمه الديني رع واح اي المحروس من راع، أو حفظه رع، كما نقول في الاسلام حفظه الله، لإيماننا بالله الرب الكريم الحافظ، فقد قرر بسماتك، كما يزعم هيرودس، أن يتأكد من صحة ما يتناقله قومه عن أنهم أعرق الشعوب، فأخذ طفلين صغيرين وأعطاهما لأحد الرعاة، وطلب منه أن يوفر لهما الحليب وكل ما يلزم لحياتهما على ألا ينطق بكلمة واحدة أمامهما، وسارت الأمور كما يجب، وذات يوم بعد أن كبرا قليلاً وزارهما الراعي، قالا له بيكوس، وهي في لغة الفيريجيين اليونانيين الخبز، وهذا يدل على أنها هي اللغة الأولى، والأصلية، وأن الليجيين، هم أعرق الشعوب، وليس المصريين، وهذا بلا شك مناف للحقيقة، كما أورد القصة برواية اليونانيين، الذين يزعمون أن الفرعون بسماتك أمر بإحضار طفلين، ثم أمر بقطع لسانيهما، ودفع بهما إلى الراعي، وبعد حين نطقا بكلمة بيكوس أي الخبز، وهذه من الخرافات التي لا يمكن تصديقها، لكن تبقى الدلالة واضحة بأن هناك ادعاءات من كل الأطراف بالعراقة والتفاخر بها، وهنا أذكر ما جاء في كتاب دينالي ردفورد، مصر وكنعان واسرائيل في العصور القديمة، الذي أشار فيه الى أن المصريين بعد أن تغلبت عليهم بعض القبائل الليبية مثل المشويش والليبو لجاؤوا إلى الانكفاء على أنفسهم، وترديد ذكر أصالتهم وعراقة مصر، كما أخذوا في رسم مشجرات العائلة، وربطها بالأسر الحاكمة في ذلك الوقت، تنفيسا عما أصابهم، ومن ضمن الادعاءات التي ذكرها أنها شائعة عند اليونانيين، أن المصريين قد وجدوا بعد تراكم الطمي في الدلتا، وأنه لم يكن لهم وجود قبل ذلك، لكنه والحق يقال، ذكر أن ذلك غير صحيح، وأنهم موجودين منذ أن وجد البشر، ولا يمكن لأحد أن يغفل الحقيقة بأن حضارة مصر من أعرق الحضارات في العالم والتي بقية آثارها بارزة حتى يومنا هذا، الفرعون بسماتك الذي ذكرناه آنفاً لم يتم العثور على تمثاله إلا في عام ألفين وسبعة عشر، أي أن هناك كنوزا من الآثار المصرية ما زلت مدفونة.

تحدث هيرودس عن الفرس الذين كانوا في صراع مع قومه أثناء حياته، وكان للفرس في ذلك الوقت اليد الطولى على المنطقة حيث كانوا يحكمون آشور وبابل ومصر وأجزاء من اليونان والمناطق المحاذية لها، لهذا فقد وقف منهم موقفاً عدائياً إلى حد كبير، وكان يسخر من ادعائهم أنهم أعرق الأقوام، وهم في حد زعمه أ‘بعد ما يكون عن ذلك، وقد أشار إلى الكثير من عاداتهم وطرق حياتهم الاجتماعية، أما الآشوريين والبابليين فكان معجباً بالرفاهية التي يعيشونها، قبل استيلاء الفرس عليهم، وأنهم لا يزرعون التين، ولا يحبون الزيتون كثيراً، لكن أرضهم خصبة تنتج الكثير من الحبوب، وهم كغيرهم يرون أنفسهم أعرق بني البشر.

هكذا كانت الشعوب في ذلك الزمن البعيد، تفخر بماضيها، وهذه سمة طيبه، ولا شك أن الكثير من شعوب الأرض عاشت حضارة، وبنت وشيدت، منها ما نعلمه، ومنها ما لا نعلمه، والشرق مثل الصين والهند وغيرهما، كان لهم باع طويل، ومثلهم في إفريقيا والأمريكيتين.