لا أجوبة بعد عن أسئلة كثيرة طرحها تمرّد مجموعة “فاغنر” التي على رأسها يفغيني بريغوجين خريج السجون الروسيّة. كان بريغوجين أحد أقرب الناس إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. انتهى بريغوجين في مينسك، عاصمة بيلاروسيا، لكن السؤال هل مشكلة روسيا في “فاغنر”… أم في ذهابها إلى حرب غير محسوبة النتائج مع أوكرانيا؟
تبقى الحرب مع أوكرانيا لبّ المشكلة الروسيّة. كانت “فاغنر” شريكا في هذه الحرب لا أكثر. لذلك لا بدّ من التفكير منذ الآن بوسيلة لوقف الحرب التي غيّرت العالم والتي تركت انعكاسات على الداخل الروسي. لا بدّ من العودة إلى المنطق والذهاب إلى الأساس بدل التلهي بالقشور. في النهاية، كيف يمكن لشخص يمتلك حدا أدنى من المنطق الكلام عن “فاغنر” وارتكاباتها في حين كان وراء قيامها. مجرد قبول وجود ميليشيا إلى جانب الجيش الروسي جريمة.
قد يكون السؤال الأوّل، الذي يطرح نفسه، في ضوء تمرد “فاغنر” عن مدى تصدّع النظام الروسي الذي اعتمد على مجموعة من المرتزقة ليحقّق بعض الانتصارات في أوكرانيا. تدخلت “فاغنر” بعدما عجز الجيش الروسي عن السيطرة على كييف في بداية الحرب الأوكرانيّة التي اندلعت في 24 شباط – فبراير 2022 أي قبل سنة ونصف السنة. أنقذت “فاغنر” بعضا من ماء الوجه لبوتين في أوكرانيا. اعترف بذلك بنفسه ولا يزال يطالب بانضمام عناصر المجموعة التي ستبقى في الأراضي الروسيّة إلى الجيش النظامي. لا قيمة لهؤلاء خارج إطار “فاغنر” التي كانت تؤمّن لهم وضعا خاصا فضلا عن ميزات ذات طابع مالي مرتبطة بشخص بريغوجين.
أنقذ بريغوجين قليلا من سمعة الجيش النظامي، لكنه كشف في الوقت ذاته مستوى الأداء العسكري الروسي في حرب خاضها فلاديمير بوتين معتقدا أنّها مجرّد نزهة. لم يكن يدرك حتّى مدى سوء مستوى السلاح الروسي ومدى تخلفه مقارنة مع السلاح الغربي. الأهمّ من ذلك كلّه، أنّه لم يكن يعرف شيئا عن الوضع الداخلي في أوكرانيا ومدى تعلّق الأوكرانيين برئيسهم فولوديمير زيلينسكي الذي أثبت بالفعل أنّه رجل استثنائي. تلك فضيحة ليس بعدها فضيحة، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ الرئيس الروسي كان يعتبر نفسه ممثلا لقوّة عظمى في هذا العالم… قوة تمتلك السلاح النووي. ما الذي استطاع عمله بهذا السلاح غير التهديد به مرّة تلو الأخرى من دون نتيجة.
هل يستطيع فلاديمير بوتين العودة إلى لغة الواقع عبر القيام بعملية نقد للذات بدءا بقرار الحرب على أوكرانيا؟ سيكون صعبا عليه الإقدام على مثل هذه الخطوة التي تتضمن شجاعة كبيرة. يعود ذلك إلى أن الاعتراف بالفشل يتطلب رجالا صادقين من طينة مختلفة يدركون أنّ وطنهم أهمّ منهم. ماذا ينفع أن ينقذ بوتين نفسه وأن تتفجر روسيا من الداخل؟
من الواضح، أن الرئيس الروسي لا يسعى سوى إلى إنقاذ نفسه بدل الاعتراف بأنّه تعرّض لضربة سياسية. لم تكن تلك الضربة على يد زعيم “فاغنر” فقط. في أساس الضربة القويّة التي تعرّض لها الرئيس الروسي رفضه استيعاب أنّ العالم غير مستعد للرضوخ لمشيئة رجل يخلط بين وضعي سوريا وأوكرانيا. سكت بوتين طويلا عن جرائم “فاغنر” التي شاركت في الحرب على الشعب السوري وتدخلت في مناطق أخرى من هذا العالم، في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى على سبيل المثال وليس الحصر.
لم يستفق على هذه الجرائم إلّا بعد تمرّد يفغيني بريغوجين الذي سارت قواته في اتجاه موسكو ووصلت إلى نحو 200 كيلومتر منها من دون مقاومة تذكر. لم يوجد من يتصدّى لعناصر “فاغنر” التي انسحبت من الأراضي الأوكرانية وتوجهت نحو العاصمة الروسية بعدما وجدت الطريق أمامها سالكة وآمنة.
بغض النظر عن مصير بريغوجين، يبقى أن الأزمة الروسية هي قبل كلّ شيء أزمة رجل اسمه فلاديمير بوتين قرّر أخذ بلده إلى حرب من دون تقدير للنتائج الخطيرة التي ستترتب على ذلك. هذا كلّ ما في الأمر. ليس معروفا هل سيقبل بوتين دفع ثمن ما ارتكبه، أو على الأصحّ ثمن جهله في أوكرانيا وفي القدرات العسكريّة لروسيا… حيث شعب لا يريد أن يقاتل؟
الأهمّ من ذلك كلّه، يوجد جهل لدى الرئيس الروسي لحقيقة واضحة. تتمثل هذه الحقيقة في أن أميركا وأوروبا لا يمكن أن تقبلا بوضع يد روسيّة على أوكرانيا. لا يمكن لأميركا قبول العودة إلى ما قبل انهيار جدار برلين في خريف العام 1989 والعودة إلى وجود أوروبا الشرقية التي كان الاتحاد السوفياتي يهيمن على دولها، بل يستعمرها… ووجود أوروبا الغربيّة التي كانت تُمارس في دولها الحياة الديمقراطيّة.
بكلام أوضح، لا تستطيع أميركا، بأي شكل ومهما بلغ الثمن العودة إلى ما قبل نهاية الحرب الباردة. أكثر من ذلك، لا يمكن لأيّ بلد أوروبي، بما في ذلك ألمانيا، القبول بسيطرة روسيا على أوكرانيا. باختصار شديد، ستشعر كلّ دولة أوروبيّة بأنّها صارت تحت التهديد الروسي انطلاقا من أوكرانيا.
لا مجال للاستعانة بنظرية المؤامرة بغية تبرير لجوء فلاديمير بوتين إلى شنّ حربه على أوكرانيا. تختزل الوضع الراهن معادلة في غاية البساطة تقوم على الجهل. يحكم روسيا شخص لا يعرف العالم ولا يريد التعرّف إليه. يجهل بوتين أن الشعب الروسي يشجّع على الحرب مع أوكرانيا، لكنه، في المقابل، يرفض استمرار هذه الحرب كونه شعبا عجوزا يتضاءل عدده سنويا.
يظلّ أخطر ما في الأمر أن روسيا تعاني من مشاكل داخلية عميقة لم تكن “فاغنر” إلا من بين ظواهرها. كيف يخوض زعيم سياسي حربا فيما شعبه لا يريد أن يحارب. ذلك هو السؤال الذي لا جواب عنه لدى فلاديمير بوتين الذي تعرّض بالفعل لمؤامرة. لا ينقذه حاليا غير التعاطي مع الواقع والمنطق. يكون ذلك بالبحث عن صيغة وسط تقوم أوّلا على الاعتراف بالوحدة الترابية لأوكرانيا!
التعليقات