باتت الحرب الروسية على أوكرانيا حقاً موقع زلّة قدم الاتحاد الروسي إلى التفكّك والانهيار، لأنّ ما كشفه تمرّد قائد مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة يفغيني بريغوجين، ليس فقط التصدّع داخل جدران الكرملين، حيث الرئيس فلاديمير بوتين، بل التصدّع الأخطر داخل المجتمع الروسي المستاء من تورّط روسيا في حربها الأوكرانية، والغاضب من أداء المؤسسة العسكرية المخزي، والخائف من تعبئة ثانية من التجنيد، في حرب لا مناص من مضاعفة شراستها بقذارة، إذا كان لروسيا فرصة الانتصار فيها، ولو نسبياً.

ماذا سيفعل فلاديمير بوتين أمام إصرار المؤسسة العسكرية على ضرورة خلع "القفازات البيضاء"، وإلاّ ستكون الهزيمة حتميّة لروسيا في أوكرانيا، بحسب تقويمها؟ وماذا ستفعل الولايات المتحدة أمام التصدّع في النظام الروسي وداخل المجتمع- هل ستخاف من اللااستقرار والفوضى، أم أنّها لا تبالي لأنّ انهيار الأمبراطورية الروسية بصورة نهائية يريح أوروبا ويريحها جوهرياً وجذرياً؟

تاريخ 12 تموز (يوليو) 2023 سيكون موعداً مؤلماً للرئيس الروسي، الذي ارتكب خطأً فادحاً بتاريخ 17 كانون الأول (ديسمبر) 2021، عندما وجّه إنذاراً إلى دول حلف شمال الأطلسي، بأنّ عليها تقديم ضمانات أمنية مكتوبة، تشمل عدم توسيع عضوية الناتو والتعهّد بعدم انضمام أوكرانيا إلى الحلف... وإلاّ. عندما تُعقَد قمّة حلف شمال الأطلسي في 12 تموز (يوليو) الجاري، تكون فنلندا قد التحقت بالحلف والسويد وراءها، وتكون أوكرانيا قد قطعت شوطاً مهمّاً في تعميق إضفاء الطابع الرسمي على علاقة أوكرانيا بالناتو في صورة لا عودة عنها.

معنى ذلك عملياً، هو إبطال الإنذار الذي وجّهه فلاديمير بوتين إلى حلف الناتو، لاسيّما وأنّه اتخذ قرار الحرب في شباط (فبراير) 2022 وتورّط فيها. هناك رأي يقول إنّ الذي ورّط فلاديمير بوتين هو الغرب، وبالذات الولايات المتحدة، عبر استدراجه واستفزازه. هذا صحيحٌ إلى حدٍ كبير، لاسيّما وأنّ الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان تعهّد للرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف بعدم توسيع عضوية الناتو مقابل موافقة غورباتشوف على حلّ حلف وارسو للمعسكر الشرقي- إنما التعهّدات كانت شفوية وليس في ضمانات مكتوبة.

فلاديمير بوتين أراد الانتقام من الوعود الزائفة ومن خطيئة التاريخ، إلاّ أنّه ارتكب هفوة تاريخية historical blunder سرّع فيها توسيع عضوية حلف الناتو ومهّد لانتماء أوكرانيا رسمياً إلى هذا الحلف في الحديقة الخلفية لروسيا، نتيجة حرب ما زال يرفض تسميتها باسمها، ويُطلق عليها تعبير "عمليات خاصة".

ماذا سيفعل الرئيس الروسي أمام قرارات قمّة حلف شمال الأطلسي المقبلة في فيلنيوس، ليتوانيا، والتي ستكرّس أكثر وأعمق انتماء أوكرانيا إلى الحلف؟ هل سيستمع إلى نداء المؤسسة العسكرية الروسية بأنّ عليه اتخاذ القرار السياسي ومنحها الضوء الأخضر لسحقٍ واسع النطاق في العمليات العسكرية بقذارةٍ، ما تتطلبه الحرب اليوم، تشمل مجزرة المدنيين وتدميراً شاملاً للمدن؟ ماذا سيفعل بوتين بالورطة التي تقول المؤسسة العسكرية إنّ روسيا وقَعت فيها: إما الهزيمة الجديّة لروسيا، أو قلب المعادلة العسكرية واعتماد ما تسمّيه بالنموذج الأميركي في العراق، أي السحق الكامل من دون أي اعتبار لحجم ونوعية الأضرار والعواقب على المدنيين؟

الإجابة معقّدة، وتمرّد يفغيني بريغوجين إنما سلّط الأضواء على الاستياء الشعبي من أداء روسيا في "عملياتها العسكرية الخاصة" في أوكرانيا. بريغوجين ليس عميلاً للولايات المتحدة، بل إنّه عميل مخلص لروسيا ورئاستها. ليس صحيحاً أنّه حاول القيام بانقلاب عسكري للإطاحة بالرئيس بوتين، وإنما هدفه كان إجبار الرئاسة الروسية على إعادة النظر في قراراتها العسكرية في الحرب الأوكرانية، ودفعها إلى التخلّص من وزير الدفاع وقائد القوات الروسية في أوكرانيا. تمرّده كشف الستار عن المزاج السائد داخل المجتمع الروسي- وهذا أخطر.

الأسبوع المقبل يكون قد مرّ 500 يوم منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، بخسارة عسكرية تفوق خسارة الإتحاد السوفياتي في الحرب الأفغانية. الشعب الروسي بدأ يتململ ويتساءل كيف حدث وأنّ الجيش الروسي، أحد أكبر الجيوش في العالم، عاجز ومبعثر ويواجه الهزيمة المذلّة. هذا شعب فوجئ بحرب لم تكن في حساباته، حرب كشفت ضعفاً بنيوياً في النظام الذي يحكمه وفي المؤسسة العسكرية. إنّه على حافة السخط، لكنه ليس على وشك الانقلاب على رئيسه الآن... الآن، ما يريده هو إحداث تغيير في القيادة العسكرية الدفاعية، ويريد أسلوباً مختلفاً في أداء العمليات العسكرية الخاصة.

ستكون هناك تداعيات لانسحاب مجموعة "فاغنر" من ساحة القتال في أوكرانيا، وهي التي كانت الأشرس وخسرت أكثر من 20 ألف عنصر منذ بدء الحرب، 13 ألفاً منهم في المعركة على باخموت. بريغوجين كان في طليعة العسكريين الذين طالبوا المؤسسة العسكرية والرئيس الروسي بخلع القفازات البيضاء للانخراط في ما يسمّونه الحرب الحقيقية. والسؤال الأساسي اليوم هو: هل سيفعلها بوتين، أم أنّه سيبقى خائفاً من العواقب؟

لعبة التحدّي رهاناً على عدم جرأة الآخر لعبها فلاديمير بوتين عندما ظنّ أنّ الغرب لن يتجرأ على إهمال إنذاره الشهير وسينصاع لشروطه. حدث العكس، تجاهل الغرب إنذار بوتين وتعاطى معه بنوع من السخرية، فثار غضب بوتين وارتكب خطأ الوقوع في فخ نُصِبَ له ونصبَه لنفسه.

رهان الغرب الآن هو على أنّ بوتين لن يجرؤ على استخدام الخيار النووي، ولن تكون عنده الجرأة للشراسة التي تتطلّبها الحرب تفادياً للهزيمة. عندما كانت "فاغنر" في الساحة، كان في الإمكان إخفاء خسائرها وفظائعها والاختباء وراء كونها قوات غير نظامية وليس جيش دولة. الآن، وكي يتمكن الجيش الروسي من تحرير مدينة أو احتلال أخرى، لن يستطيع الإخفاء أو الاختباء، لاسيّما وأنّ التحرير أو الاحتلال يتطلّب شراسة وحشية تحت أنظار العالم.

فلاديمير بوتين يدرك أنّ الولايات المتحدة وكل الدول الأعضاء في الناتو ستكون له بالمرصاد، إذا أخذ بنصيحة المؤسسة العسكرية وأصدر أوامر السحق مهما كانت الكلفة الإنسانية. يدرك أنّ الانتصار يتطلّب تدمير مدن بكاملها وقتل عشرات الآلاف من المدنيين. يدرك، ويخاف. يدرك كلفة تجنّب الهزيمة ويخاف من ثمن الانتصار.

ما يتعهّد به الأميركيون، في إنذار للرئيس الروسي، هو اتخاذ إجراءات تقطع شريان التواصل مع روسيا وتكبّلها في عزلة تخنقها- إذا اختار بوتين خلع القفازات البيضاء كما تريد القيادة العسكرية. رسالة الأميركيين واضحة وهي، إذا دمّرتم المدن، سنضرب طوق حصار قاتل بلا إنترنت ولا خدمة الموبايل- حصار يشعر به كل مواطن روسي. هذا إلى جانب إجراءات تمنع المداولات المالية وتطيح القدرة على الاستمرار بالصادرات والواردات.

المعادلة صعبة جداً على فلاديمير بوتين. إذا أراد الانتصار في الحرب الأوكرانية، عليه أن يعطي الضوء الأخضر للجيش الروسي. وإذا أعطى الضوء الأخضر لتجنّب مذلّة الهزيمة، يكون يغامر بتحويل روسيا إلى دولة منبوذة ومحاصرة ومعزولة. ماذا يريد الشعب الروسي لفلاديمير بوتين أن يفعل؟ لعلّ الرئيس يعرف لكنه يخاف أن يعترف بما يخشاه، وهو الخيار السيئ الآخر: خيار الإعتراف بالخطأ التاريخي والعودة عنه بتنازلات مؤلمة أمام أوكرانيا، وبقبول حلف الناتو بالعضوية الموسّعة التي تطوّق روسيا استراتيجياً من دون إجراءات عقابية. إنّه خيار ما يُسمّى Count your losses، أي الانسحاب، قبل المزيد من الخسارة... وهو يكاد يكون مستحيلاً.

واقعياً، الباب بات مُغلَقاً على محادثات نحو حل ديبلوماسي يُنهي حرب روسيا الأوكرانية، لأنّ شروط روسيا عفى عليها الزمن- أي عدم توسيع عضوية الناتو وعدم التحاق أوكرانيا بهذا المحور. ثم إنّ المؤسسة العسكرية لا تريد للمؤسسة السياسية أن تتوصل إلى عملية تفاوضية على نسق "مينسك". تريد الإنتصار عسكرياً قبل أي تفاوض، وتصرّ على أن يكون التفاوض ضمن معادلة التفوّق والفوقية الروسية Superiority. هذه المؤسسة ترفض أن تقرأ الحروف على الحائط، والتي تفيد أنّ انهيار الأمبراطورية الروسية آتٍ بسبب الحرب الأوكرانية. رأيها هو أنّ إنقاذ روسيا من الانهيار وارد فقط عبر تحقيق الانتصار في الحرب الأوكرانية.

بالأمس القريب، كان الشعب الروسي آمناً يتمتع بحرّية حجبها عنه النظام السوفياتي، يتطلّع الى السفر ورغد العيش. كان هناك نوع من Social contract عقدٍ اجتماعي بين الناس وبين فلاديمير بوتين الذي سلّم الناس به- بالرغم من عدم الرضا على نزعته الديكتاتورية- مقابل توفير فرص الرخاء والاستمتاع باقتصاد مريح وتداخل مع العالم. اليوم، حدث تصدّع في العقد الاجتماعي نفسه وداخل المجتمع الروسي الذي يطالب الآن بحركة تصحيحية.

عند بدء تمرّد قائد مجموعة "فاغنر"، قرأت الإدارة الأميركية المشهد على أنّه محاولة انقلاب ومشروع فوضى، في بلد يمتلك القدرات النووية، فبدا عليها القلق من مزيج اللااستقرار والنووي والفوضى. بدا وكأنّ بقاء الرئيس فلاديمير بوتين في السلطة هو صمّام الأمان، ليس فقط في نظر بعض الأميركيين وإنما من وجهة نظر العديد من الذين راقبوا تطورات الأسبوع الماضي بكثير من الدهشة، واعتبروا أنّ اندلاع الفوضى في روسيا أسوأ من بقاء بوتين في السلطة.

في نهاية المطاف، ما حدث الأسبوع الماضي يشير إلى أنّ روسيا لن تعود إلى ما كانت عليه قبل حربها الأوكرانية. فلاديمير بوتين لم يكن مستفيداً من التطورات، ولا من التصدّع في البنية التحتية الروسية المؤسساتية والاجتماعية. تداعيات ما حدث في بدئها، ولا يمكن الاستنتاج قطعاً أنّ اللااستقرار ليس آتياً إلى روسيا. طالما الحرب الروسية في أوكرانيا مستمرة، فإنّ بوتين في مأزق وروسيا في ورطة والإمبراطورية في انزلاق إلى مصير مجهول.