ولا في أي لحظة من الـ24 ساعة التي استغرقها تمرّد مقاتلي «فاغنر» كان هناك انطباع جدّي بأن هذه الميليشيا ستتمكّن من تحقيق الأهداف التي أعلنها قائدها. ومع أن المعلومات كشّفت لاحقاً أن هذه الحركة كانت تنطوي على مخاطر تتجاوز «فاغنر»، فإن القيادة الروسية استطاعت احتواءَها وإنهاء التمرّد.

وبدا أن البراغماتية هي التي سادت، فلا وجود لهذه الميليشيا من دون الترخيص الحكومي لها، ولا ضرورة لسحقها والقضاء عليها طالما أن ثمة حاجة إليها في تنفيذ بعض المهام. أما الخيارات الثلاثة التي حُدّدت للمقاتلين، بين التعاقد مع وزارة الدفاع أو الانتقال إلى بيلاروسيا أو التسريح، فتضمّنت واقعياً إعادة هيكلة للشركة التي تشغّلهم. وبموجب التحالف القوي القائم بين موسكو ومينسك فإن «فاغنر» ستبقى «في الخدمة»، وقد بدأت دول الجوار تتحسّب لعودتها إلى جبهات أخرى في أوكرانيا. المخاوف التي ساورت عواصمَ الدول الغربية كانت أقرب إلى الفرضيات التي توضع في الحسبان عند تقدير الموقف.

ولذلك لم يُهمل المعني احتمال حصول اضطرابات داخلية وانعكاسها على الخارج، فأي اضطراب في عالم اليوم أصبح ولو في بلد صغير يؤثّر في محيطه فكيف إذا كان البلد كبيراً مثل روسيا. المؤكّد أنه لم يكن للغرب، رغم اختراقات أجهزته وأدواته، أي قدرة على التدخل في الحدث «الفاغنري» أو التحكّم بمجرياته، غير أن القلق الأكبر ارتبط بالحرب الدائرة في أوكرانيا واضطرار روسيا لتصعيد خطير لو تبيّن لها أنها في «خطر وجودي».

ولا شك في أن عدم حصول شيء من ذلك، كما أفادت واشنطن، أثبت أن الكرملين لم يستشعر أي تهديد، وإذا كان الرئيس فلاديمير بوتين أشار إلى وجود «خيانة» و«طعنة في الظهر»، فإن «الشأن الداخلي» الذي واجهه لم يضعف موقفه في الحرب بل استطاع معالجته بما لا يسمح بتكراره.

لم يغيّر تمرّد «فاغنر» المعطيات في الصراع الغربي مع روسيا، وبالتالي بقيت الحرب هي المشكلة التي ينبغي النظر في إنهائها. لكن ذلك التمرّد شكّل حافزاً لتجديد الدعوات إلى البدء بالتفاوض، خصوصاً أن تقويم الوضعين الروسي (الاستعدادات والتحصينات في شرق أوكرانيا وجنوبها) والأوكراني (الهجوم المضاد ومآلاته) لا يشير حتى الآن إلى إمكان حدوث تغييرات ميدانية حاسمة. مضى النصف الأول من هذه السنة ولم يُحرز أي تقدّم ملموس في المبادرة الصينية التي ما تزال قائمة وتحظى بقبول عالمي، إلا أن الاستجابة الأميركية لم تتوفّر بعد.

أما المحاولة الأفريقية للتوسّط، ورغم حمولتها الإنسانية الكبيرة، فلم تحقق اختراقاً، لكنها تدعم أي مساعٍ أخرى. وفي غياب أي مسار جدّي للتفاوض تسعى أوكرانيا وحلفاؤها إلى عقد «قمة سلام» تُطرح خلالها مبادئ لتسوية تنهي الحرب، غير أن حظوظَها في النجاح تتوقف على استعداد دول مدعوة كثيرة للاصطفاف ضد روسيا بعدما تمسّكت بالحياد إزاء الصراع.

ما الهدف إذاً من التسويف في التفاوض، بل من إحباطه؟ إنه التوريط كاستراتيجية بديلة عن المواجهة المباشرة، وقد جُرّبت في سوريا، فبعدما تعذّر تدخّل الدول الغربية شُجعت روسيا على التدّخل عام 2015، لعل انخراطها في سوريا يثنيها عن الالتفات إلى أوكرانيا التي تفاقمت أزمتها منذ 2014. لكن الجمود الذي فُرض على الأزمة السورية أعاد روسيا إلى أوكرانيا، ليجري التعامل معها بالسيناريو نفسه، ولو بمخاطر وأكلاف أكثر جسامة.
*كاتب ومحلل سياسي -لندن