تعدّ بنغلاديش من ضمن البلدان الآسيوية الأسرع نمواً، لكنها، كغيرها من الأقطار النامية، تواجه العديد من التحديات. فإذا ما وضعنا جانباً تحديات الطبيعة ممثلة في الفيضانات السنوية التي عادة ما تلحق أضراراً كبيرة بالمنشآت وتهلك المحاصيل وتحصد الأرواح، تعاني بنغلاديش من شدة الكثافة السكانية وتداعياتها من فقر وازدحام وضغوط على البنية الخدمية.
ولهذه الأسباب والعوامل مجتمعة، وجدت حكومتها أن الشرط الأساسي لتوسيع حجم الاقتصاد وتحقيق تنمية مستدامة هو تطوير البنية التحتية المادية لتعزيز الاتصال بين مختلف مقاطعات البلاد، وإلا فإن من الصعب عليها توسيع أنشطتها الاقتصادية والصناعية خارج العاصمة نحو المناطق الساحلية مثلاً.
ومن هنا بدأ التفكير في الاستعانة بالخارج وطلب المساعدات الأجنبية، فالتقت سياسات حكومة دكا التنموية وحاجتها للتمويل، بطموحات الصين الاستراتيجية التي يمثلها أفضل تمثيل مبادرة الحزام والطريق (BRI).
وبعبارة أخرى راهنت دكا على الصين باعتبارها قطباً آسيوياً هاماً وقوة اقتصادية عالمية، فسارعت للانضمام إلى المبادرة كالعديد من الدول النامية الأخرى، بل ودخلت أيضاً في شراكة واتفاقيات استراتيجية ثنائية مع الجانب الصيني كي تحصل على التمويل الإنمائي والقروض الميسرة بأشكال مختلفة أخرى خارج إطار المبادرة بما في ذلك تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص في البلدين.
كان من نتائج هذا التعاون أن برزت الصين، في السنوات الأخيرة منذ عام 2016، كأكبر شريك تجاري لبنغلاديش وأحد أكبر مانحيها. ونجد تجليات ذلك في ثلاثة مشاريع إنمائية كبرى انتهت الصين من تنفيذها في بنغلاديش، وستة مشاريع ممائلة قيد التنفيذ أو ينتظر البدء في تنفيذها، وذلك بموجب المبادرة الصينية.
وتشمل المشاريع الثلاثة المذكورة: مشروع جسر وسكة حديد بادما المتعدد الأغراض عبر نهر بادما بالقرب من العاصمة دكا (مشروع تم تنفيذه باستخدام التكنولوجيا والهندسة الصينية، ويختصر طرق النقل بشكل كبير ويربط شمال البلاد وشمال غربها مباشرة بالعاصمة، بل ويخفف الضغط على الممرات المائية الداخلية المستخدمة للنقل التجاري)، ومشروع نفق بانغاباندو تحت نهر كارنافولي (مشروع غير مسبوق لجهة الحفر تحت المياه لأول مرة في بنغلاديش من أجل إقامة نفق يسهل عمليات نقل البضائع والأفراد ويمهد لإنشاء قطارات الأنفاق مستقبلاً)، ومشروع معالجة مياه الصرف الصحي في داشركندي (مشروع هام لمعالجة مياه الأمطار القذرة والنفايات المنزلية المتجمعة عبر محطات تنقية قبل وصولها إلى المسطحات المائية والمنازل).
لقد أقدمت دكا على ما سبق، وهي تعلم محاذير الاعتماد المكثف على قوة عظمى لها أجنداتها السياسية وطموحاتها الإقليمية، ومنها شبح الوقوع في ما يسمى بـ «فخ القروض أو الديون» الذي عانت منه سريلانكا وتسببت في انهيارها وإفلاسها وخسارة سيادتها على ميناء هامبانتونتا.
كما أنها وضعت في اعتبارها ما سينشأ عن شراكتها مع بكين من شكوك وهواجس في الهند، جارتها الكبرى التي تحيط بها جغرافياً من الشرق والغرب والشمال، ومن امتعاض في واشنطن التي لا يمكن لدكا الإفراط في صداقتها بسبب وزنها الدولي وعلاقات الاستيراد والتصدير القوية معها. فكيف تصرفت؟
الحقيقة أن كلاً من نيودلهي وواشنطن بات تنظر إلى بنغلاديش على أنها دولة تميل إلى الصين، رغم محاولات دكا الظهور بمظهر الدولة المحايدة الساعية إلى توازن لجهة علاقاتها الثنائية مع القوى الإقليمية والعالمية الكبيرة المتنافسة.
ومن جهة أخرى أظهرت حكومة الشيخة حسينة واجد حكمة وحنكة في كيفية تعاونها مع الصينيين، فهي مثلاً، في سعيها لتجنب الوقوع في «فخ الديون» رفضت أو ألغت العديد من المشاريع المقترحة من قبل بكين من تلك التي لا تبدو مجدية اقتصادياً أو أن كلفتها أكثر من فوائدها، مركزة فقط على المشاريع الحاسمة التي تعالج نقص البنية التحتية، ولا تمنح مزايا استراتيجية وجيوسياسية للعملاق الصيني.
وبكلام آخر أكثر وضوحاً أظهرت حكومة دكا براعة تصلح لتكون نموذجاً في دراسة كل مشروع إنمائي مقترح من الممول الصيني على حدة لجهة كلفته ومنافعه (نفقاته وإيراداته)، ثم المفاضلة بينها لاختيار الأقل عبئاً والأكثر فائدة للاقتصاد الوطني والتنمية المستدامة والتصنيع والتجارة وأهداف الارتقاء بأحوال المواطنين المعيشية وتحسين بيئة الاستثمار.
ولعل اختيارها وموافقتها على المشاريع الثلاثة التي تحدثنا عنها، خير دليل على صحة ما نقول، فهي مشاريع لا تقدر بثمن وتساوي كلفتها وأعباءها التمويلية وتزيد الناتج المحلي الإجمالي وتقلل نسبة الفقر وتجدد الاقتصاد وتعالج الطلب المتزايد على الطاقة، وتزيد حركة الاتصال والنقل عبر الحدود، فضلاً عن أنها تعرف البلاد على التقنيات والتكنولوجيا المتطورة في أعمال الإنشاءات.
وفي التقييم الأخير، يمكن القول إن بنغلاديش فعلت ما يجب أن تفعله كل الدول المنخرطة مع العملاق الصيني، وكان من نتائج ذلك أن استفادت استفادة صافية من مبادرة الحزام والطريق دون أن تحمل نفسها أعباء كبيرة أو ترهن أصولها السيادية.
التعليقات