يكاد يكون لكل مقهى وفندق ومنزل في طنجة قصة. قلما تدخل فندفاً لم يعلق صور مشاهير نزلوا فيه، ونادراً ما تمر بزنقة لم يسكن أحد بيوتها كاتب أو ممثل أو رسام عالمي. ولـ"فيلا مبروكة" قصّة فريدة تتجدد اليوم حتى صارت على كل لسان في "مدينة البحرين" (المتوسط والأطلسي) وعروس الشمال المغربي.

عندما قصد المصمم البريطاني جاسبر كونران طنجة قبل خمسة أعوام، كان في جولة لشراء خيمة لرحلات استكشافية يقوم بها نزلاء فندقه L’hotel في مراكش، لكنه بدل ذلك عاد بمفاتيح "فيلا مبروكة"( وتعني بيت الحظ).

بين أزقة طنجة الضيقة وحوانيتها الصغيرة وعلى مسافة غير بعيدة من قصبتها، مدخل صغير تلجه إلى عالم آخر. ساحة خضراء تظللها أشجار الموز والنخيل، وبقعة من المروج الواسعة وحديقة ساحرة مطلة على البحر. وسط كل هذا منزل صيفي قديم مطل على مضيق جبل طارق افتتح في تموز (يوليو) الماضي كفندق من 12 غرفة تعكس تفاصيله أناقة وذوقاً رفيعين وتخبر قصة رجل مليئة بالألوان والسحر والخيال والإلهام.

سحرت طنجة العديد من الكتاب والفنانين والرسامين والمسرحيين والموسيقيين العالميين عبر التاريخ، فاختاروها مكانا لإقامتهم الدائمة، أو وجهتهم المفضلة كلما زاروا المغرب. وارتأى كثيرون الاستقرار فيها، فكان لهم منزل أو فيلا أو حتى ساحة باسمه. ولعل أشهرهم الكاتب والأديب الأميركي بول باولز الذي جال عواصم العالم، لكنه فضل طنجة، وفيها كتب أجمل رواياته. وكان صديق الروائي الطنجوي محمد شكري صاحب "الخبز الحافي" الرواية الفضائحية الشهيرة التي ترجمت الى لغات عالمية.

"فيلا مبروكة" كانت المنزل المغربي الثاني للمصمم العالمي إيف سان لوران وشريكه بيار بيرجيه، بعد منزلهما المراكشي. شيَّد البناء الذي يعود إلى ستينات القرن الماضي، مهرب سجائر أميركي، ثم باعه للشيخة الكويتية فاطمة الصباح التي أضافت إليه حوض سباحة مميزاً بشكله وتصميمه.

عندما اشتراه سان لوران وبيرجيه عام 1990، اتصلا بالمهندس جاك غرانج وعهدا اليه مهمة تصميمها لتكون فيلا حديثة تعكس الماضي الفني والأدبي للمدينة البيضاء، وملاذًا هادئًا لهما في مفترق الطرق العالمي بين أوروبا وأفريقيا، وبين الماضي والحاضر.

ويتذكر جاك غرانج: "أراد إيف تجسيد قصة رجل إنكليزي غريب الأطوار في سنوات ما بعد الحرب، جاء ليعيش في طنجة. أراد لوناً مختلفاً لكل غرفة: غرفة زرقاء وغرفة صفراء، وما إلى ذلك". وقال: "كان الأمر أشبه بتزيين منزل لشخصيات من مسرحية لتينيسي ويليامز".

استخدم غرانج قماش الشينتز Chintz للمفروشات الناعمة، اما بقية الديكور فجمعت كلها بين تناقضات أنيقة، واحتفظ المنزل بالطراز المغربي الحديث.

كانت طنجة مليئة بمعالم العمارة الإسبانية والمغربية، الأمر الذي مكّن الحرفيين المحليين من الحفاظ على أصالة البناء وتفاصيله. وعندما انتقل سان لوران إليها، صارت الفيلا المليئة بالضوء، الملجأ الهادئ الذي يبحث عنه.

وكتبت صحيفة "نيويورك تايمز" عن الفيلا عام 2014 إنها نقيض المنازل الأخرى لسان لوران. هي تجسيد بصري لتنشق الهواء النقي. لا مجموعات من اللوحات الثمينة ولا من الآثار الآسيوية أو البرونزيات من عصر النهضة أو الجدران المكسوة بألواح خشبية منحوتة يدويًا. طوال عقد تقريباً وحتى وفاته عن عمر يناهز 71 عامًا في عام 2008، تراجعت (في مقره الطنجية) المساحات الفنية المليئة بالنوادر الجميلة لصالح الغرف الحديثة". واختصر قائلاً: " كانت فيلا مبروكة هي إلى حد بعيد ملاذه الأكثر إثارة للدهشة ودرساً في سحر البساطة".

ويحكى أن حياة سان لوران في "مبروكة" كانت هادئة وخاصة. هناك كان يقرأ ويستمع إلى الأوبرا وزقزقات الطيور ويشاهد الأفلام ويتأمل قوارب الصيد ويتمشى في الطبيعة ويتقاسم وجبات بسيطة مع الأصدقاء المقربين. وكانت حفلات العشاء والحفلات الصاخبة التي أقامها في منازله الأخرى قد انتهت بحلول الوقت الذي انتقل هو وبيرجيه إلى الفيلا الطنجية في صيف 1999.

في عام 2017، كلف بيار بيرجيه غرانج تحديث الفيلا، فخصص مساحات بيضاء متجددة يزينها الجفصين، واستبعد قماش الـ chintz لصالح أثاث من الخيزران والجدران المبطنة بالقش. واستخدم ألواناً ترابية مع لمسات من اللون الأخضر، وأوعز الى المصمم مايسون كوكس تصميم الحدائق المورقة مضيفاً إليها أنواعًا نادرة من نباتات البحر الأبيض المتوسط.

ظلت "فيلا مبروكة" ملهمة إيف سان لوران لسنوات طويلة، وحتى وفاته. وعام 2019 اشتراها مصمم الأزياء والتصميم الداخلي البريطاني، جاسبر كونران الذي انكب طوال أربع سنوات على العمل عليها، محاولاً تكريم روح سان لوران وذوقه، والبقاء وفياً لجوهر العمارة الحديثة، جنبًا إلى جنب مع عناصر التصميم المغربية التقليدية والديكورات الداخلية للمنزل الريفي الإنكليزي.

تبدو الفيلا اليوم بأجنحتها الـ12 ساحرة ببساطتها. لكنّ تفاصيلها كلها وصولاً إلى بطانيات الكشمير التيبتية المصبوغة يدويًا، اختيرت بتكليف من كونران وساعده الأيمن جيك باريت. ولا تقل روعة تلك التحلف والقطع التراثية المختارة بعناية من غاليري تندوف لصاحبها أبو بكر تملي في طنجة.

في الباحات الخارجية مساحات عدة للاسترخاء، جناح صيني أنيق مخصص لغداء أو عشاء خاص، وكشك بجوار المسبح حيث يمكن أولئك الذين لا يرغبون في أخذ حمام شمس، أن يستلقوا على وسائد مخططة، والاستمتاع بجداريات تم ترميمها، إضافة إلى مساحات مطلة على البحر. أما الغروب فلا يشبه إلا نفسه من سطح الفيلا الذي حوّل مساحة أنيقة.

كل ما في "فيلا مبروكة" بسيط وأنيق ودافئ، تماماً كمضيفتنا مريم التي أسرتنا بلباقتها وزادت جولتنا في المكان سحراً.