هناك ثمة حقائق لا بد من التطرق إليها قبل الشروع في سرد سيرة هذه العالمة والعبقرية العربية، أولها أن الذكاء والعبقرية ليست مقتصرة على جنس أو شعب أو ملة، فالشباب العرب مثلا لا ينقصهم الإبداع والذكاء والأفكار العبقرية، بل قد يملكون من الرؤى والأفكار والإرادة والجدية والدأب ما هو أكثر من الموجودة لدى أقرانهم في الغرب، ولكن ما ينقصهم هو دعم الجهات الرسمية والأخذ بيدهم وتبني أفكارهم وأطروحاتهم بجدية وتحويلها إلى مشاريع حقيقية مفيدة لهم وللبشرية. ولعنا لا نبالغ لو استخدمنا في هذا السياق المقولة الشائعة بأن «العرب يحاربون المبدع حتى يفشل وفي الغرب يدعمون الفاشل حتى ينجح». والحقيقة الثانية هي أن إلقاء تبعات الفشل في التفوق والابتكار على الغرب بوصفه المهيمن على مقدرات العالم، وبالتالي القول باستحالة المقارنة بسبب تفوق الأخير في الامكانيات والقدرات والوسائل ومحاربته للمبدعين العرب والمسلمين صار مبررا مستهلكا ووسيلة لإعفاء الذات من اللوم والتقصير. فالإبداع والابتكار الحقيقيين لا يمكن أن يأتي ويكتمل إلا عن طريق طرح التساؤلات واستخدام منهج المقارنة ونظرياته. أما الحقيقة الثالثة فهي أن معظم التجارب الإنسانية الإبداعية كان ثمرة لإمتلاك أصحابها لثقافتين، استطاعوا بهما مد جسور حضارية بين الشرق والغرب، عن هاتين الثقافتين قال الكاتب هايل المذابي في صحيفة الفراعنة (13/‏4/‏2017): أنهما ثقافة العقل وثقافة القلب.. ثقافة الروح وثقافة المادة.. ثقافة الشرق وثقافة الغرب.

إن العالمة العربية اليمنية، التي تحمل الجنسية السعودية منذ أوائل 2022، الدكتورة العبقرية مناهل عبدالرحمن ثابت التي سنستعرض هنا سيرتها المفصلة وانجازاتها ورحلتها العلمية وتجربتها الخاصة في النجاح والابداع، أحد الأمثلة الحية على صحة ما قلناه في مقدمة المادة. لاسيما وأنها من بلاد متواضعة في مواردها وامكاناتها، ناهيك عن أنها بلاد قلما عاشت الإستقرار السياسي والوئام الوطني أو توفرت فيها البيئة الآمنة والمناخ الحر للإبداع والابتكار.

ولدت مناهل في عدن، صاحبة الماضي العريق في الانفتاح على مختلف الثقافات وحاضنة المتعلمين والمثقفين من أبناء اليمن، وأحد أهم مراكز التجارة والحركة الاقتصادية والمدارس الغربية في جنوب الجزيرة العربية. كان ميلادها في 14 أكتوبر 1981، أي في اليوم الذي يحتفل فيه مسقط رأسها بعيد الاستقلال وجلاء الانجليز. والدها هو الإعلامي المعروف عبدالرحمن ثابت المولود في ذبحان الحجرية بمحافظة تعز سنة 1947، والذي كان من أوائل من عمل بالبرنامجين العربي والإنجليزي من إذاعة وتلفزيون عدن بعيد حصوله على شهادة الثقافة العامة من جامعة لندن سنة 1965، ثم انتقل للعمل في هيئة الإذاعة البريطانية بلندن عام 1984 بعد أن اجتاز كافة الاختبارات بنجاح، وبعد عدة سنوات عاد إلى اليمن فعمل في سفارة اليابان بصنعاء كبيرا للمساعدين لمدة 13 عاما، وحينما حصل على التقاعد في عام 2006 قرر أن يستقر في القاهرة مع ابنته الأخرى الدكتورة نهاوند ثابت عضو نقابة أطباء الأسنان بمصر إلى حين وفاته ودفنه رحمه الله هناك في 10 مايو 2017.

درست مناهل في مدارس عدن الحكومية، على الرغم من معاناتها منذ ولادتها من مرض التوحد الذي فرض عليها الجلوس في صفها صامتة إلى درجة أن قريناتها كن يشاغبنها ويصفنها بالبكماء، لكنها من جهة أخرى ظهر عليها علامات النبوغ منذ سن الخامسة، إذ أظهرت قدرات خارقة في استيعاب دروسها. ولهذا السبب حظيت بعناية خاصة من قبل معلماتها ومدرستها تجلت في منحها برنامجا دراسيا مكثفا في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، الأمر الذي أفضى إلى حصولها على شهادة الثانوية وهي في سن الرابعة عشر، لتسافر إلى الولايات المتحدة سنة 1996 وهي في سن الخامسة عشر من أجل الالتحاق بجامعة «دي بول» الأمريكية الخاصة بولاية شيكاغو لدراسة الاقتصاد. وهناك واصلت دراستها إلى أن نالت في عام 2006 شهادة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف في أحد التخصصات الحديثة والصعبة وهو تخصص الهندسة المالية (تختص ببناء الأنظمة المالية وهيكلتها وإعادة هيكلتها) عن أطروحة بعنوان «نظرية السلوك، سعر الفائدة والاختبارات التجريبية لنظرية التسعير المرجحة في الأسواق المالية»، لتصبح بذلك، وهي في سن الخامسة والعشرين، أصغر إمرأة في العالم تحمل دكتوراه الهندسة المالية، وأحد العرب القلائل المتخصصين في هذا الحقل العلمي.

شغفها بالمعرفة والتحصيل العلمي، قادرها بعد ذلك لمواصلة الدراسة في الولايات المتحدة، إلى أن نالت شهادة دكتوراه ثانية في رياضيات الكم في سنة 2009 وهي في سن الثامنة والعشرين. وقد تم عمليا تبني النظريات التي وضعتها في العديد من المؤسسات العالمية المتخصصة في الفضاء لقياس المجرات الكونية وسرعة انتقال الضوء بينها.

وقد يفاجيء القاريء حينما يعلم أنها، على الرغم من تخصصاتها العلمية الدقيقة، تملك مهارات أدبية وقدرات بلاغية في اللغتين العربية والانجليزية، تضاهي تلك الموجودة لدى الأدباء والكتاب العرب. ويكفي دليلا أن يقرأ المرء القطعة الأدبية الرفيعة التي نشرتها في وداع والدها، الذي ربما أورثها ليس فقط الشغف والانشغال بالمعرفة والعلوم، وانما أورثها أيضا جينات وملكات بلاغية ولغوية. صاغت مناهل بعبارات يفيض منها الألم والحزن مقالا في وداع والدها فقالت: «فقدتك معلما نبيلا ومرشدا عليما وصديقا أفخر به قبل أن تكون لي والدا. لقد تعلمت منك الكثير.. تعلمت منك يا أبي أن أظل جالسة على الأرض مهما بلغت علما وشهرة ومقاما حتى لا أسقط، وتعلمت منك أن المرأة تظل طفلةً مهما كبرت لكنها تشيخ وتهرم في اللحظة التي يموت فيها والدها. وأول مرة أمسكت فيها بابهامك في طفولتي أيقنت في قرارة نفسي أنني سأظل ممسكةً بها إلى الأبد.. وهذا ما استوعبه الآن. لم أجد في نبلك وعظمتك سوى طريق العلم والمعرفة الذي سلكته زاهدة في كل ملذات الدنيا وجماليات الحياة وأمجادها. هكذا تبدو الحياة إذًا بدونك، مقالة أدبية ركيكة، أو لنقل فرضية علمية ليس لها إثبات يسندها، وكنت أنت دائمًا إثبات الفرضية وتجمِّل الركيك الهش في هذا العالم، وتمنحه ألقًا يفتقر إليه الآن، لكأنما فقد كل شيء معناه وأصبح باهتًا حتى الأبد، إنها حكاية الجسد الذي فقد روحه وبالتالي فقد اتصاله بالعالم الذي يشترط الكمال بين الروح والجسد. هذا العالم يا سيدي محض غلطة من دونك، فوالله ما حزنت أخت لفقد أخ.. حزني عليك ولا أم على ولد».

لمناهل، التي عاشت لبعض الوقت في دبي تحت رعاية قيادتها الحكيمة والسباقة لجهة دعم العقول العربية المبدعة في مختلف التخصصات، وحيث أسست لنفسها مشروعا خاصا بها، رحلة طويلة مع التكريمات والجوائز والألقاب والمناصب.

فعدا عن لقب «الأولى والأصغر والوحيدة في العالم العربي المتخصصة في الهندسة المالية»، ولقب «ملكة البورصة» التي منحته لها صحيفة «وول ستريت جورنال» بسبب دورها الفعال في عالم البورصة والمداولات المالية العالمية، وعدا عن وصف العالم «مايكل غلب» لها بأنها تفكر مثل ليوناردو دافنشي ولديها قدرة أديسون في الابتكار والإبداع، حازت في عام 2000 على جائزة التميز الدولية والبيئية والإنسانية العالمية نظير جهودها البارزة في البعثات البيئية والإنسانية في أفريقيا إبان عملها مع الأمم المتحدة. وفي العام نفسه كرمها «اتحاد المرأة من أجل السلام العالمي» بمنحها جائزة السلام الدولية، فكانت أصغر امرأة في العالم تحظى بهذا التكريم. وفي سنة 2010م اختيرت من قبل مجلة «لوفيسيال» كشخصية العام للإلهام وحصلت على جائزة المرأة العربية. وفي عام 2011 صنفت ضمن أذكى 30 شخصًا من الأحياء في العالم، وجاء هذا ضمن بحث علمي لـ Super Scholar. وفي عام 2013 حازت على لقب «عبقرية العام» عن قارة آسيا، من قبل مؤسسة «برين تراست» البريطانية فكانت بذلك أول شخصية عربية تنال اللقب. وقتها قال عنها رئيس المؤسسة توني بوزان مخترع الخارطة الذهنية: «إن هذه الجائزة تمنح بناء على ترشيح من لجنة مشكلة من جمعية العلوم الملكية البريطانية تحت رعاية واشراف مؤسستنا، ولو كان الأمر بيدي لقمت بتسليم الجائزة لهذه العالمة المتميزة دون المرور على اللجنة، نظرا لاستحقاقها الجائزة بكل جدارة، فهي مثال حي للمثابرة والاجتهاد رغم كل ما مرت به من تحديات وصعوبات». وفي عام 2014 حصلت مناهل على «جائزة نوبل ابن سينا» التي منحت في العام السابق لمكتشف الخارطة الذهنية، وهي جائزة تمنح لأولئك الذين يقدمون أفضل الممارسات في مجال العلوم، وربط الشرق مع الغرب من خلال العلم والمعرفة.

وفي انجاز تاريخي لافت آخرلها. دخلت الدكتورة مناهل موسوعة جنيس للأرقام القياسية، بعد أن تمكنت من تعليم 1307 شخصا من طالبات وأعضاء هيئة تدريس جامعة دار الحكمة بجدة كيفية عمل الخارطة الذهنية في وقت قياسي لم يتعد الثلاثين دقيقة، ونجاحها في تصحيح كل خريطة ذهنيه في أقل من ثانيتين، وهو ما لم ينجح فيه حتى مكتشف الخارطة الذهنية نفسه، الذي أرسل لها تهنئة مصورة بالفيديو من مكان تواجده في سنغافورة. والمعروف أن الخارطة الذهنية هي تقنية ثورية لمعرفة بنية الدماغ البشري عبر استخدام الصور والألوان، والكلمات الرئيسية والفرعية، وهو ما ساعد الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم على تعزيز قدراتهم وتقوية ذاكرتهم وتمتين مواهبهم في الإبداع والابتكار، على نحو ما فعلته القائمون على عمل مؤسسات مثل ناسا و أبل و مايكروسوفت.

أما العام 2016 فقد شهد قرار محكمة تشمبرلين بلندن منحها امتياز الحرية كتعبير عن الحب الذي تكنه لمدينة الضباب. وقد جاء في حيثيات القرار أن الدكتورة مناهل «من القلائل الذين استطاعوا أن يمدوا جسورًا بين الحضارة العربية والحضارة الأوروبية بامتلاكها ثقافتين متضادتين هما ثقافة الشرق والغرب وهو ما يعجز البناؤون عن تشييده ومده». والمعروف أن جائزة امتياز الحرية لمدينة لندن تقليد قديم بدأ في العصور الوسطى حين كانت لندن تمنحه للشخصيات المهمة، ليكون لها صلاحيات الطبقات الارستقراطية في لندن، واستمر هذا التقليد رغم اختفاء كل مظاهر ذلك العصر كنوع من التعبير عن المحبة والاعتزاز لشخصيات اعتبارية سواء كانت انجليزية أو أجنبية، والمتتبع لقائمة من تم منحهم هذا الامتياز عبر التاريخ سيجد أنها كانت جميعا شخصيات أثرت وأضافت في مسار التاريخ الإنساني. وبعد عامين من هذا التكريم منحتها بريطانيا لقب «فارسة سانت كارين سيناي» في حفل حضره اللورد هاردنغ اابن الروحي لملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية.

إلى ما سبق، تعتبر الدكتورة مناهل عضوا فاعلا في عدد من المنظمات المهمة، مثل جمعية العباقرة العالمية الدولية (منسا)، والمؤسسة الدولية للمهندسين الماليين التي منحتها لقب «ضليع» في الرياضيات، كما أنها عضو فاعل في منظمة «القيادات العربية الشابة»، وعضو ناشط في العديد من المؤسسات والمنظمات ذات الصبغة الاجتماعية والإنسانية والخيرية. كما أنها ترأس منظمة مجتمع الذكاء النادر (World Intelligence Network) والذي يشترط نسبة 98 بالمئة نسبة مئوية لمعدل ذكاء الندرة، علما بأنها منظمة مسؤولة عن 27 مؤسسة لمتفوقي الذكاء في العالم. والجدير بالذكر أيضا أنها أختيرت سفيرة للنوايا الحسنة من قبل مؤسسة»إيكو الدولي للفنون«التابعة للأمير ألبرت الثاني أمير موناكو.

سجلت عنها صحيفة الأيام العدنية (28/‏3/‏2021) قولها عن كيفية قياس ذكاء الانسان: هناك عدة قياسات لقياس المقدرة الفكرية، فهناك أكثر من 72 مقياسا للذكاء معتمدة دوليا. والحاصل على اكثر من 130 درجة بموجب مقياس (Intelligence quotient) هو انسان متميز، وهناك فرق بين الانسان الذكي والمتميز والعبقري والجهبذ. وفي ردها على سؤال أين تضع مناهل نفسها في سلم العبقرية؟، أجابت بتواضع الكبار: «أنا انسانة طبيعية جدا وهناك مبدأ للعبقرية فأول ما تحس أنك عبقري تفقد عبقريتك، لهذا فأنا مجرد انسانة مجتهدة».

ونختتم بما عبر عنه محرر صحيفة «عدن الغد» من أسف لأن أمثال الدكتورة منال لا يزالون بحاجة إلى تعريف في أوطانهم، ملقيا اللوم على الإعلام العربي بقوله: «لو كانت مناهل مغنية لما وجدنا أحدا لا يعرفها»، وداعيا القادة ورجال الأعمال العرب إلى الاستثمار في العلم وتشجيع العقول وإطلاق مبادارات الدعم للمبدعين باعتباره استثمارا في مناجم العقول التي لا تقل ربحية وأهمية عن الاستثمار في مناجم الذهب.